المحتويات
.
مقدمة
جبلاً ارتفع من عمق هذه الأرض، والجبل في تكونه وارتفاعه، وامتشاقه عنان السماء، يعرف جيداً، ويدرك تماماً رفاقه الجبال، فالجبل لا يتكون في الوديان، ولا في السهول، بل يتكون وسط الجبال، ومن هنا نعرف أنه جبل يسمو بقمته وسط الجبال. هكذا، كان وليد إخلاصي، الذي جمعه مقعد الدراسة ذات يوم مع صباح أبو قوس الذي أصبح اسمه صباح فخري، الأب الروحي للقدود الحلبية، وكذلك، في ثانوية التجهيز كان من المقربين له، والذي لا ينقطع عن التواصل معه، صديقه الذي تعرف إليه في القاعة الكبيرة المخصصة لأغراض متعددة كالرسم، وهو من أصبح فيما بعد الفنان التشكيلي لؤي كيالي، كما كان زكي الأرسوزي أحد أساتذته، وكذلك الشاعر سليمان العيسى، وفي الإنكليزية كان أستاذه فاتح المدرس، كما عاصر أستاذاً كبيراً في حلب حين كان طالباً في الثانوية، وهو صاحب موسوعة حلب، وأغاني القبة، إنه العلامة خير الدين الأسدي.
كان وليد إخلاصي كبيراً منذ أن كان صغيراً، وهذا الصغير الكبير، كان يعرف التحدّي بشراسة دفاعاً عن إبائه وكرامته، وما كان لهذا الصغير الكبير، إلا أن ينتظر يوماً يقول فيه للعالم: «أسمع ضربات قلبي على الورق، والعالَم حسناً أصغى، ومازال يصغي إلى نغماته العميقة التي تنزل كنهر هادر من أعالي الجبال!!».
سيرته الذاتية
ولادته
والده هو الشيخ الأزهري أحمد عون الله إخلاصي وقد عُيِّنَ مديراً لأوقاف إسكندرونة فأخذ أسرته المكونة من زوجة وولدين هما نزار الكبير وعدنان الصغير، وذهب بهم إلى إسكندرونة تاركاً حلب والزوجان مازالا في قمة الحيوية والشباب، وها هي الأم تحمل في بطنها ثمرة جديدة. وجاء الابن الثالث وهو المسمى «وليد» الذي أطل على الحياة ليلة السابع والعشرين من أيار للعام 1935.
الانتقال إلى حمص وولادة أخته هند
كان قرار انتقال الوالد إلى عمله الجديد قد ابتدأ مفعوله في يوم من العام 1937، فاتجهت بهم السيارة إلى مدينة حمص التي سيدير فيها والده أوقاف المدينة.
وما أن مرت سنوات أربع على قدوم وليد إلى الدنيا ليكون الابن الثالث في أولاد الأسرة، حتى كان التوقيت في أن يصبحوا أربعة أخوة، وهكذا كان احتفال الأسرة بقدوم المولود الجديد مع استثناء، فقد كان القادم بنتاً.
كما أن استضافة هذا الكائن ذهب بوقار الأب فكان يحملها بين ذراعيه منادياً «هند..هند» ويدور بها في أرجاء الصالون مكرراً ترحيبه بها وشاكراً الله على تلك النعمة وداعياً الجميع إلى التوجه بالامتنان إلى فضل الله على الجميع. وظل الشيخ في صلواته يتوجه إلى السماء بالامتنان لمنحها أسرته تلك الهدية الغالية.
لقاؤه الأول مع ما يُسمَّى بالموت
لقد ابتدأ الطفل (وليد) يسمع حكايات وإشارات عما يسمى الجنود الفرنسيين وقسوة احتلالهم للأرض السورية التي كان يعتقد أنها تدل على الإسكندرونه وحمص فإذا هي تدل على ما هو أكبر من المدن التي احتضنته.
كان هناك جار لهم في العمارة المجاورة وهو شاب جميل بقامته اللافتة للنظر وبسماحة وجهه، فهو إذا قابل واحداً من أطفال الحي داعبه بمودة ورحب به، وكان يطيل في زيارته لبيت عائلة وليد، فيعلم وليد أنه يتبادل مع والده محبة خاصة، كان اسمه مصطفى السباعي. وذات يوم، تدفق الناس نحو العائلة وهم يحملون جسداً تمزق صدره. والأكف ترفع جسد جارهم (ابن الحسامي)، وقد تدلت ذراعاه، ودخل التكبير والتهليل عمارة الشاب الذي قيل إن رصاص الدمدم قد أودى بحياته. ذلك المشهد كان أول معرفته بأمر اصطلح على تسميته بالموت. وصحح والده الكلمة بأنها الشهادة.
حماة: المحطة الثالثة
كان قدوم العائلة إلى حماة في يوم من الأسابيع الأولى من العام 1940. وكانت دراسته الابتدائية في أول سنة في حماة. وما أن انقضت سنة أو أكثر بقليل حتى أعلن الوالد عن قرار جديد سيعيدهم إلى حلب. وكان الوالد فرحاً لقرار العودة إلى المدينة التي جاؤوا منها. حيث كان قرار نقل وظيفة الوالد قد وصل في الصباح.
مدرسة الحمدانية في حلب
قُبِلَ وليد في مدرسة الحمدانية طالباً في الصف الثاني. وكان اليوم في المدرسة يبتدئ عادة بتحية العلم. وعلى إيقاع الطبل يرتفع العلم السوري على السارية فترتص الصفوف أمامها يتقدمها أستاذ الموسيقى أو المدير بنفسه، ويبدأ التلاميذ يرددون النشيد الوطني «حماة الديار عليكم سلام»، فكان طقس الصباح يشكل جانباً من المحبة للوطن الذي ما زال يقبع تحت سيطرة الاحتلال الفرنسي الذي لا يتوقف عن نشر الجنود في معظم الأحياء وكأنهم شركاء في امتلاك المدينة التي لم تتوقف عن إبداء استيائها في السر والعلن.
ويذكر وليد قائلاً: «وبالرغم من مرور مئات السنين على بناء المدرسة، فقد تشققت جدران فيه ونمت أعشاب بين حواف بلاط الحوش، وسقطت زخارف سقف أو باب، فالمدرسة حافظت على هيبة تغنى بها الأساتذة والزوار. كانت الحمدانية مكاناً يعيش في الوجدان فيسعى إليه التلاميذ كل يوم بمحبة تعادل التعلق بالبيت والأهل. كانت الحياة الجميلة تتوزع بين البيت والمدرسة فلا تحمل العودة إلى المنزل سوى الرغبة في انتظار الذهاب إلى المدرسة».
مظاهر الفقر والضنك في حياة العائلة
لم تتلق والدته أية فرصة في التعليم. لم تكن تقرأ أو تكتب ولكنها حفظت آيات قصاراً من القرآن الكريم تنفعها في أداء صلواتها المنتظمة. وقد شهدت أيام الضيق المادي قدرتها في تدبير أمور أولادها المدرسية. كانت تعد الحبر لاستخدامهم، فكانت تذيب بلوراته في الماء الساخن لحفظ الحبر في زجاجة يملؤون منها محابرهم المصنوعة من التنك، كما أنها كانت تحيل الورق المستخدم للتغليف (ورق الصر) إلى دفاتر تخيطها بالمسلة، فقد كان ثمن الدفاتر في المكتبات يشكل عبئاً ثقيلاً. كما أن الوالدة لم تنقطع عن ترميم الكتب الممزقة فقد كان المتداول عند معظم التلاميذ والطلاب هو التبادل بين السابقين واللاحقين في السنة الدراسية.
أثناء سنوات الحرب العالمية الثانية كان الاحتلال الفرنسي يسيطر على المحاصيل الزراعية كالقمح والشعير، ووضع نظام القسائم التي توزع على الناس المحصول وفق حصص شهرية من الطحين.
ولما كانت نسبة الشعير هي الغالبة في الطحين، كان الرغيف أكثر صلابة، وخصوصاً أن كل عائلة كانت تخبز الرغيف على نفقتها الخاصة، وهكذا اضطر الوالد بالاتفاق مع الوالدة إلى طحن البطاطا المسلوقة لتعدّل من قوام العجين، فساهمت في إظهار الرغيف بليونة أفضل.
كما أنهم أمضوا زمناً من حياتهم دون توفر مدفأة في البيت تردّ عنهم برد الشتاء، وكان المنقل هو الوسيلة الوحيدة لإرسال الدفء بجمراته التي تظل لامعة إلى فترة من الليل ليخمد بريقها بعد ذلك.
وفي اجتماع عائلي عقب العشاء، أعلن الوالد عن حصوله على مدفأة قديمة، وكانت المدافئ تعمل آنذاك بالحطب. وكان لدخول واحدة إلى البيت فعل السحر، فكانوا يمسحون عليها بأيديهم غير مصدقين.
وفي حلب ارتفعت وتيرة الأزمات الاقتصادية يشارك في تأجيجها الاحتلال والحرب. فكانت السجادتان اللتان استطاع الوالد شراءهما أثناء إقامته في إسكندرونة، والسماور المصنوع من الفضة والذي كانت نيرانه تحافظ على صلاحية الشاي للشرب، شيئين ثمينين شكلا - أي السماور والسجادتان العجميتان - إحدى الحلول التي لجأ إليها الوالد لمواجهة الضيق والعسر.
دار الكتب الوطنية
شُيِّدَت دار الكتب الوطنية منذ سنوات، وكان موقعها في ساحة باب الفرج يواجه برج الساعة التي أقيمت أيام الحكم العثماني، فتحولا إلى علامة للساحة التي اختفى منها باب الفرج المندثر مع معظم أبواب السور الذي دافع عن المدينة لقرون عديدة. وكانت إدارة الاستخبارات الفرنسية قد وضعت يدها على الدار الأشبه بقصر أمير، فقامت البلدية باستئجار مبنى قديم على حدود مقبرة العبارة لتكون بديلاً لدار الكتب الوطنية.
وكان وليد يتردد على المكتبة تلك بين حين وآخر فيقرأ كتب الأطفال فيها، ويبدو أن مكتبة والده الصغيرة هي التي حفزته على القراءة لإعجابه بها وبتاريخه الذي كشفت عنه أعداد من مجلة «الاعتصام» كان رئيساً لتحريرها قبل أن يولد وليد. وقد توقفت تلك المجلة عن الصدور بأمر من الحاكم الفرنسي في أوائل الثلاثينات. وبات حلم وليد المبكر في أن يتمثل حياة الوالد، وهكذا أصبحت القراءة واحدة من الهوايات كاللعب بالكلال (الدحل الزجاجية) والجري وراء كرة القدم ومشاهدة الأفلام السينمائية.
أول عمل قام به
لم يكن المصروف الشهري الذي يحصل عليه من والده يكفي لشراء كتاب أو تسديد أجر له، وكذلك الحصول على تذكرة لدخول دار السينما. فقرر أن يعمل، وجاءت العطلة الصيفية لتكون الفرصة الأولى في كسب المال.
وقد قبِلَ قريب لجدته يصنع السكاكر بعد التوصية أن يعمل عنده. وكان المعمل في حوش داره التي تشكل دكان البيع واحداً من مداخله. سمح له عمره بمشاركة مجموعة النسوة ليعمل معهن في لف قطع السكاكر بالورق الملون، فكانت أجرة الكيلوغرام الذي ينجزه تدفع له مباشرة. ولا ينكر أنه كان بين فترة وأخرى يمعن النظر لثوان في الصبايا اللواتي لم يعرن اهتماماً لصبي مثله أو يخشين من نظرة تصدر عنه فيتصرفن في الجلوس بحرية أمامه، فالصبي كما يرددن أحياناً هو «ابن ناس».
ولم تدم له أيام العمل اليدوي طويلاً، فقد اختاره سيد العمل (سعيد) كي يستلم الصندوق في الدكان، وليكون المسؤول الوحيد في معظم الأوقات عن البيع بمفرده وإجراء تسجيل الدخول بدقة. وسيروقه ذلك العمل فيشعر بالفخر وقد بلغه قول المعلم يشيد بأمانته وحرصه على التعامل الجيد مع الزبائن.
عمله الثاني
لم يكد يترك عمله الأول، حتى استيقظت عنده لذة العمل المأجور. وبدأ يفكر في طريقة يحصل فيها على المال، وهكذا وجد نفسه يغامر بالتوجه إلى مخزن كبير للأدوات المنزلية يعاين محتوياته التي تزيغ البصر. مكث فترة يتنقل من ركن إلى ركن يقلّب النظر في الصحون والكؤوس والطناجر ومئات المواد الأخرى، فما كان من رجل ملتحٍ شد وسطه شال عجمي إلا أن توجه إليه، ودلت هيبته وهو يسأل عن طلبه على أنه صاحب المخزن.
أعلن وليد فجأة ودون تفكير عن رغبته في بيع أدوات منزلية على البسطة التي كانت شائعة في الشارع المجاور لسور الجامع الكبير. تفحصه الرجل بنظراته وما لبث أن مال بقامته عليه وهو يسأل عن المبلغ الذي يمتلكه ثمناً للبضاعة، فما كان من وليد إلا أن صرح بقدرته على الدفع بعد البيع، فاتسعت عيناه دهشة وكأنه يقول «وهل الأمر بهذه البساطة؟»، إلا أنه هتف بشيء من الاستياء «وهل تعتقد أن الأمور في السوق تمشي هكذا»، لاذ وليد بالصمت لعلمه بأن طلبه لم يكن منطقياً فدار على نفسه طلباً للمغادرة، فما كان من الرجل إلا أن استوقفه ليسأل عن اسمه وابن من يكون.
فقال بصوت منكسر أنه ابن الشيخ عون الله إخلاصي، ثم أضاف باعتزاز إلى أنه الأصغر بين أبنائه، فتغيرت ملامح الرجل وهو يقول «إذن فأنت ابن رجل نحبه ونجلّه». وأشار إلى عامل عنده أن يأخذ بيده ليختار ما يشاء من بضاعة دون ثمن مسبق، وقال له «تستطيع أن تسدد الذمة لتعود وتأخذ من جديد ما تريد».
خان الشربجي
كان بيت العائلة في منتصف المسافة بين دار الكتب الوطنية وخان الشربجي القائم في منطقة باب أنطاكية. وقد حول الفرنسيون ذلك الخان إلى معتقل يُحتجز فيه المعارضون للاحتلال والمنادون بالاستقلال بدءاً بالسياسيين المعروفين وانتهاء برجال من الأحزاب أو من أهالي الأحياء القديمة.
وكانت التظاهرات تمر عادة من ذلك الشارع الطويل وهي تتجه إلى مبنى المحافظ المشيد أمام القلعة، فكان مرور التظاهرة من مسافة قريبة من الأمور التي اعتاد على مشاهدتها عبر النوافذ، فإذا ما ابتدأ إطلاق النار تتوارى العائلة في الداخل خوفاً من رصاصة طائشة. وبات من المألوف أن يتقدم التظاهرة عادة رجل شعبي يخب بشرواله كزعيم وهو يحمل العلم السوري ملوحاً به كما يفعل مربو الطيور على الأسطحة. وعرف أفراد العائلة من ابنهم نزار أن اسم ذلك الرجل هو أبو صطيف.
كان حلم هذا الرجل يتجسد في وضع حد لأسطورة السجن (خان الشربجي) كما كانت مخاوفه على الناس من رصاص الدمدم، وكان ذلك الرصاص هو الذي فجر صدر أبو صطيف. فسقط الرجل قتيلاً، وكانت له جنازة فاقت أعداد المشاركين فيها أكبر تظاهرة عرفت من قبل. ولم يتوقف ذكره بين أفراد العائلة، وتذكره الجميع في همهماته السحرية وفي طريقة شربه للشاي، وفي القيام بخدمة الذين جاؤوا معه وكأنه صاحب الدار.
وأيضاً عنترة
كان عنترة واحداً من الأشقياء الذين يدخلون المهابة لمن يقابله من الأولاد فيحسبون له ألف حساب فما يجرؤ أحد على مخالفة أمر له. وبالرغم من أن عمره لم يتجاوز الخمسة عشر عاماً فإنه ظهر لنا كرجل قوي يمكن له أن يرفع صبياً بين ذراعيه ويلوّح به في الهواء كدمية يتسلى بها.
وذات مرة، احتشدت مظاهرة كبرى في وسط المدينة، وعلى جسر النهر حوصرت مقدمة المظاهرة بين طرفيه، وقوبلت الحجارة المتساقطة على الجنود بالرصاص ينطلق من بنادقهم بهدف الإصابات المباشرة. مزقت رصاصات الدمدم صدور المتظاهرين، وكان أحدهم عنترة بنفسه وقد أصر على أن يكون في المقدمة.
السرتفيكا
كان حصول وليد على السرتفيكا بداية التحول في حياته. بين فراق الحمدانية والانتقال إلى ثانوية التجهيز الأولى التي تبدأ الدراسة فيها بالصف السادس، وهكذا شعر بالفرح والحنين في نفس الوقت، الحنين إلى الماضي، والفرح بأنه أصبح طالباً في مدرسة الكبار.
العلم بعيداً عن المدرسة
قرر الوالد أن تعلق ابنه بالقراءة يستوجب الاعتناء باللغة العربية. ولم يكن هناك من وسيلة إلا في قراءة القرآن الكريم وحفظ أكبر قدر من آيات السور يتلقنها على يد شيخ خبير يتقن التلاوة. وهكذا التحق صيفاً بمدرسة الحفاظ وهو ما زال في العاشرة من العمر.
وبات يقرأ على والده بعد ظهر أيام من الأسبوع صيفاً وشتاء. كان مجلد «نهج البلاغة» أمامه يقرأ في صفحاته بمتعة على الرغم من صعوبته فيوقفه الوالد عند مقاطع ليشرح ويفسر فيزداد وليد تعلقاً بالكتاب، وإذا يتابع القراءة بصوت مسموع كان يثني عليه أو يشعل سيجارته فيرسل دخانه الذي يفسره وليد على أنه راض عن التزامه. كان المؤلف للإمام عليّ وشرح الشيخ محمد عبده عليه، وقد لازمته متعه التعرف عليه لسنين طويلة، فحمل تقديراً آخر لوالده الذي سمح له بقراءة ذلك الكتاب.
بدايات تجربته الدينية
1) الذكر والإنشاد:
مرت عليه أيام كان في بعض منها يتردد على حلقات الأذكار. صبياً كان فاستهوته زاوية في حي العقبة كانت تابعة لواحد من أقارب أمه. يجتمع فيها رجال بقيادة شيخ تتمايل لحيته مع الإيقاعات المتسارعة لذكر الله. وسمح له صوته الرفيع بالتفرد مرة بالإنشاد فلقي استحساناً، إلا أنه مع تكرار سقوط عدد من المشتركين بالذكر أرضاً وانتشار الزبد على الأفواه، اتخذ وليد موقفاً من التردد على الزاوية إذ لم يكن عنده تفسير لحالة من أسكره الذكر.
2) الدعاء:
في حين أن والده كان أكثر توازناً واعتدالاً في طقوسه الدينية، فمثلاً كان يحدث في ليلة النصف من شعبان، أن تجتمع الأسرة حول الوالد وهي تردد الدعاء بورع:
«اللهم إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب.
شقياً أم محروماً أو مطروداً أو مقصراً علي في الرزق.
فامح اللهم بفضلك شقاوتي وحرماني وطردي.
وإقتار رزقي».
كما اعتاد أصدقاء والده من الشيوخ زيارة العائلة في لقاء مسائي، وحدث مرة أن كان وليد يقدم الشاي للضيوف، فنظر إليه واحد من الشيوخ الأقرب إلى والده وهو يتناول الكأس وقال: «حدثني يا بني عن الدعاء الذي تختتم به صلاتك عادة»، فوجد نفسه يجيبه دون تفكير: «عادة يا عمي، أدعو الله أن يمنحني نعمة الرضا». توقف الشيخ محدقاً به، وما لبث أن وضع كأس الشاي على مسند المقعد وقال بتساؤل المحقق: «من أين أتيت بهذا الكلام الكبير؟»، ثم بإلحاح «من علّمك هذا؟»، وإلى والده يسأله: «لابد أنك يا شيخي علمته»، فكان الجواب «لا لم أفعل وهذه أول مرة أسمع فيها هذا الدعاء». وقال الشيخ الأزهري للآخرين: «ألا تجدون هذا الدعاء أكبر من قدرة صبي». وعاود السؤال إليه: «وهل تقول لنا ما معرفتك بالرضا؟»، فكان رده كسابقه بعفوية: «أن ترضى بما قسمه الله لك»، وأضاف بعد تفكير: «الرضا هو السعادة».
3) السماع:
وفي رمضان، كانت مديرية الأوقاف تستضيف في شهر الصيام قرَّاء معروفين من مصر لإحياء ليالي القرآن في الجامع الكبير الذي يمتلئ عادة بآلاف المصغين بخشوع، فشهرة أولئك القرّاء الكبار تعادل عند الناس تقديرهم لمغنين كأم كلثوم وغيرها.
وكان الشيخ مصطفى إسماعيل واحداً من أشهر الذين استجابوا للدعوة، ومن الذين لبّوا دعوت إلى الإفطار في بيت وليد، فكانت أمسية رمضانية سجلت في تاريخ الأسرة علامة. وبات وليد بعد تلك الزيارة يتابع الإذاعة المصرية لتكون له المتعة الروحية في تلاوات عدد من القرّاء، كما قدمت له الموسيقى الكلاسيكية مثلها وهو يتابع برنامجها في الإذاعة السورية. وكما كان يدرك الأهمية البالغة لمقرئين هما الشيخ محمد رفعت والشيخ مصطفى إسماعيل أوصلا جوهر المعنى القرآني في تلاواتهما، عرف وليد القيمة الروحية لموسيقى موزار وبتهوفن وفيفالدي وغيرهم. وأدى ذلك إلى التقاط العلاقة الوثيقة بين القرّاء العظام والموسيقيين الذين أجمع البشر على دورهم في الارتقاء بهم إلى شيء وجد وليد له اسماً وهو «نشوة الفرح». ويوم قرأ وليد عن الشيخ محمد رفعت أن هوايته كانت في الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية بواسطة آلة التسجيل الأسطوانية والتي لم يكن يمتلكها في الوطن العربي إلا قلة قليلة، أدرك وليد الكثير عن اللقاء الخفي بين الطرح المبدع للعقيدة الدينية والفن.
4) التأمل:
من الجدير ذكره حادثة جرت له في مرحلة دراسته الثانوية، وهي حادثة في منتهى الأهمية، فهو يذكر أثناء قراءته لكتاب «حي بن يقظان» لمؤلفه ابن طفيل. تساءل آنذاك عن معنى اكتشاف الفتى (حي)، الإنسان الوحيد في جزيرة منعزلة عن العالم، لمعنى الخالِق نتيجة التأمل الطويل، وبعد أن فقد الغزالة التي كانت أماً له ورعته منذ البداية. كانت معاينته للفضاء من حوله كوة دخل منها النور الذي أضاء وجود الله دون أن يكون له سند يهديه إلى الحقيقة.
ويذكر في حديث له مع والده، وهو يسأل عن حي بن يقظان الذي عثر على كتابه في مكتبة البيت، أنه علَّق على قدرة الفتى الوحيد في الاهتداء إلى حقيقة الله، ولم يكن في الأصل نبياً. وجاء في رده تأكيد على المقولة الإسلامية التي انطلقت من أن الإسلام هو دين الفطرة، وهي جوهر الأديان. وقال له أن الوصول إلى هذا الجوهر يتعلق بفهمنا لما هي عليه الفطرة، بمعنى أن الإنسان أصلاً يهتدي إلى إيمانه بالخالِق دون مساندة من أحد بل إن الفطرة هي نقطة البداية.
موقف الشيخ الأزهري من الفن
أعلن الأخ الأوسط عدنان عن رغبته في شراء جيتار، جمع ثمنه من أعمال صيفية مأجورة في مستودعات الميرة، وكان ذلك فرصة لإظهار اندفاع الوالد إلى إبداء رأيه الذي يؤيد الفن، وكان العزف على آلة من الأعمال الفنية التي تستحق أن يكون لها معلم. ويعتقد الوالد أن فرصة العزف على آلة العود تسمح بالعثور على مدرب لها بما قد يشكل صعوبة مع آلة الجيتار غير الشائعة.
لم يتأخر موعد حضور معلم العود الشيخ بكري الكردي وهو الذي أصبح أستاذ أخيه، وكان يتابع دروسه اليومية على ضوء كتاب «الصباغ» الذي دونت فيه نوتات الموشحات والسماعيات والقدود. كان الشيخ بكري يعمل في الجامع الكبير مؤذناً أو خادماً، إلا أنه عرف بين أهل حلب على أنه موسيقي وله مؤلفات من الأغاني المتداولة والأناشيد الدينية يتداولها رجال يحيون الأعراس والموالد.
ميوله الأولى وعلاقة المسرح بالسينما في رأيه
يذكر وليد إخلاصي في سيرته الذاتية: «لم يقتصر تعلقي بالمسرح على حفلات المدرسة، بل كنا أحياناً مع رفاق وهواة نقدم مسرحية في دار عربية، فالمتفرجون يكونون عادة من أهل الحي وبعض المعارف، وأما الجيران فيطلون من أسطحتهم على الإيوان الذي يكون عادة خشبة المسرح». ويضيف قائلاً: «وكما هو حالي مع المسرح، فإن ميلاً خفياً لأن أكون حكواتياً يمكن الاعتراف به. وكنت ألجأ أحياناً إلى رواية حادثة للأصدقاء من حولي مملحّة بالخيال والإضافات، فسقوط أسنان صناعية لمعلم أو قريب يصبح سيرة مملحّة مبهَّرَة ليصبح سقوط الأسنان دليلاً على عقاب إلهي لذاك الذي يظلم بتصرفاته. ويبدو أن افتتاني بخيال الظل وأنا أتابع فصوله في دكان من حي قديم، وتعلقي بأبطاله (كركوز وعيواظ وبكري مصطفى) وهم يتحركون وينطقون من خلف القماش الأبيض، قد جعلني أكن تقديراً للرجل الذي يحرك الجلود والذي لم أره أبداً، وهو يؤدي أدوار الشخصيات فينطق الواحد منها وفقاً لطباعه، فكأن التنوع الذي يقوم به ذلك الرجل غير المرئي هو الذي وضع أساس المحبة للعبة المسرح التي أظنها أظهرت للعالم ما أصبح اسمه السينما».
قصة السيد صقّال والحوار بين الأديان
كان لوالده صديق قريب إلى نفسه بالرغم من اللقاءات القليلة بينهما في مقهى المنشية التي استمرت كحديقة بالرغم من محاصرة العمارات لها فكانت تنمو مع السنين في قلب المدينة، لتبقى من الأماكن القليلة التي يلجأ إليها الرجال لتبادل الأحاديث تحت ظلال الأشجار الضاربة جذورها في الأرض منذ عقود. وكان الصديقان مع آخرين يجتمعون في حلقة من الود وتبادل الأخبار والأفكار، بينما حلقات تجمع أخرى يتنافس أفرادها في لعب الطاولة أو الورق. وكان يسمح لوليد أحياناً بمرافقة والده إلى المنشية فيستمع إلى تحليلات حول أحداث العالم أو إلى شعر قديم يردده واحد من أهل الحلقة مؤكداً في نهايته على أن شعر هذا اليوم ما عاد كما كان في الماضي، وكان ذاك الصديق إذا ما كان حاضراً يعلق بقوله أنهم يجب ألا يغالوا كثيراً في إظهار الكمال في الماضي فتطوُّر الزمن يمنح أهله قدرة على التفوق أيضاً.
كان السيد صقال مسيحياً من عائلة قديمة في حلب، فلم يعرفوا عنه سوى أنه غير متزوج بالرغم من تجاوزه الخمسين، وإن لم يذكر لهم الوالد عن عمله شيئاً. وغطت محبة الوالد له على تفاصيل عنه بعكس أصدقاء آخرين علمت الأسرة عنهم الكثير. وقد أخذت تلك المحبة شكل الدموع في عيني والده وهو يأتي متأخراً على غير عادته اليومية في العودة من عمله الوظيفي. كان اشتراكه في تشييع صديقه الصقال هو سبب التأخير. وفي ذلك اليوم رأى وليد والده يبكي بحرقة وهو يذكر مصابه بفقد صديق له. وكان وليد لا يتخيّل أن رجلاً مثله يبكي. حزيناً بصمت ظل والده لفترة بعد رحيل صديقه وكان أيام العزاء يقف في الكنيسة مستقبلاً وفود المعزين على أنه أقرب الناس إلى الفقيد.
وقد تخيَّر وليد، بعد أشهر، مناسبة يسأل فيها والده عن أمر ظل يحيِّره لأيام. كان الوالد يقرأ في كتاب وضعه جانباً ليستمع إلى وليد يقول: «أعلم أن صديقك الراحل كان قريباً منك، وكلنا أدركنا أنه كان بمثابة أخ لك. صحيح أنه مسيحي، إلا أنني سمعت أقوالاً عنه لا أعلم صحتها». وقال الوالد: «وما الذي سمعته عنه؟». تابع وليد: «ولا أعلم إن كانت ظالِمَة أو ملفقة». ومع استجماع شجاعته قال: «يقولون إن السيد صقال لا يؤمن بالله». فوجد والده يجلِسه بقربه، ويقول: «اعترف لي بنفسه مرة، ولم أسمع منه بعد ذلك، أنه لا يؤمن بالله». فكان صمت لا يجرؤ وليد على اقتحامه، إلا أنه بعد قليل هتف: «وهذا ما يحيرني في لقاء مؤمن بملحد على الصداقة». فجعل الوالد يتحدث بحنان وكأن صديقه مازال قائماً: «كان واحداً من أشرف الرجال الذين عرفتهم في حياتي. أميناً على حقوق الناس. صادقاً في علاقاته ووعوده، ويحمل الاحترام للناس ولا يفعل شيئاً يضر بأحد بل يسعى إلى المنفعة لغيره». وقال الوالد وهو يستوي في جلسته على الأريكة: «إسمع يا بني، الإيمان أمر يخص علاقة الإنسان بخالقه، ولسنا نحن الذين نملك الحق لنحكم على أحد، الله هو الذي يفعل. الله خلقنا، الله يحكم علينا». واقترب من وليد متابعاً: «أريد أن تعرف أن الإنسان المؤمن ليس بمنزلة يصنِّفُ فيها البشر على مقاييس رؤيته للأمور. خلقنا الله ولسنا هنا في هذه الرقعة الصغيرة من الكون الوحيدين من خلقه. ألواناً مختلفة خلقنا، والنعمة هي التي ينالها أحدنا في هداية الله، فهو يهدي من يشاء، وأعلم يقيناً أن المرحوم قد هداه الله بنقله من عالم عادي إلى ملكوت الخير الذي كان يسبِّح».
التكية الإخلاصية ومفهوم التعصب
اصطحب الوالد وليداً في رحلة لم يكشف عنها. ومن الجانب الشرقي للقلعة انحدرا من أول حي باب الأحمر باتجاه باب الحديد الذي مازال باقياً من بوابات السور القديم. توقفا قبل خطوات من سوق النجارين. وقال الوالد وهو يشير إلى باب مغلَق: «انظر إلى ما هو مكتوب»، فتلاقَت عينا وليد بنقش حجري بارز يبرز كلمتين تدلان على اسم الدار وكان «التكية الإخلاصية». وهنا قال الوالد: «إن جدنا منذ أربعة قرون كان يعيش في هذه التكية متصوفاً. وأما الأطباء الذين حدثتك عنهم فهم من أحفاده». وكأنما هدفت تلك الرحلة القصيرة إلى دعم قوله في العلاقة ما بين دراسة الطب والدفاع عن الإسلام. آنذاك قال لوليد وهم يهمّان بالعودة: «يمكن لك أن تكون في المستقبل صلة الوصل بين العلم الذي يمثله الطب وبين الإيمان الذي يمثله الإسلام»، وأضاف: «لا يمكن لمستقبلنا أن يكون قوياً ومؤثراً في العالم إلا في بناء جسر بين العلم والدين».
وفي البيت أخرج الوالد من مكتبته كراساً يحمل عنوان «التعصب» للشيخ محمد عبده، وفيما كان وليد يقلِّب صفحاته كان يقول إن الشيخ لم يتوقف يوماً عن الدعوة إلى العلوم الحديثة كي تكون مع الإسلام الطريق الذي نسلكه، وفي دعوته إلى نبذ التعصب بل محاربته كان يؤكد على أهمية العلم للإنسان المؤمن. وقال إن التخلص من التعصب هو أول الدرجات المؤدية إلى الحداثة، وإن مقاومة التعصب ستظل دوماً ذلك الرمز الذي يدل على أن المرء كائن حديث.
وكان وليد قد نال شيئاً من معرفة الحداثة عبر القراءة، إلا أن الوالد قدّم له معرفة أوسع في شرحه لمفهوم التعصب ليس عند أتباع دين ما، بل كذلك في الأفكار والأحزاب، فكأنه في ربط محاربة التعصب بالحداثة يدل على فكرة ستصبح واحدة من الثوابت التي تغرس أقدامها في أرض وليد، وقد كان لهذا فعله في إقبال وليد على كتب التاريخ وعلم الاجتماع والنفس والفلسفة، فكان يعمِّق من يقينه بأن التنوع في ألوان المعرفة هو البناء السليم للتفكير. كما أن ملاحقة سِيَر الشخصيات الإنسانية في التاريخ تدعم تكوين مدرسة الانفتاح، فالمرء في قراءته تلك السِيَر يكتشف الأثر العميق الذي أحدثه أصحابها في حياة البشر. كونفوشيوس وسقراط، عمر بن الخطاب، والعز عبد السلام وابن رشد، غاندي وجان جاك روسو وتولستوي وبوذا، موزارت وبيتهوفن ودافنشي. الأنبياء والمصلحون والمجتهدون. شعراء وروائيون ومسرحيون، مناضلون وزعماء دول وحركات ثورية. قائمة من الأسماء التي تفتن المرء بأعمالها المبدعة وشجاعتها، والتي ستتحول إلى خميرة تنضج المشاعر في أرجاء هذا العالم، ويصبحون كالتضاريس في الأرض المنبسطة يتطلع إليها الزمن بإعجاب وتقدير كنتوءات استثنائية في زمن عادي.
موقفه من التجمعات السياسية والدينية
كان وليد ما يزال في الثانوية عندما تلقّى دعوة دينية فظهر أنها دعوة سياسية في قالب ديني ينحو منحى رجعياً، وبالتالي ما كان منه إلا أن غادر المكان، ثم تلقى دعوة أخرى للمشاركة في اجتماع للحزب الشيوعي وكلتا المشاركتين أحبطته إلى أقصى درجات الإحباط عندما أراد الحوار، والحوار بالنسبة له كان سؤالاً أو تساؤلاً، فكان المشرِف على الجلسات أو المحاضِر يرفض أية إمكانية للسؤال أو الحوار ويدعوه للاستماع فقط مما جعل وليد يتمرد آنذاك، ووليد يذكر في سيرته حول ذلك: «تنامت عندي في تلك الأمسية الشاردة جملة من المشاعر وهي تنوس بين حلقة السقيفة (الدينية) والاجتماع الشيوعي، فكان القرار الذي اتخذته في نهاية المطاف قسماً أمام نفسي بألاّ ألتحق يوماً بأي تجمع سياسي أو ديني، فلا أكون ملتزماً به بل أظل مراقباً له. وكأنني وصلت إلى حقيقة أن جميع الأحزاب لها ما يبرر وجودها، وأما عن وجودي فليس له من طريق إلا ما أؤمن به من حقيقة قد تكون هنا أو هناك، فكأنما الحرية هي التي تلزم الإنسان بمجتمعه ووطنه، وأن الحر هو من يحافظ على قدرة التساؤل المستمر».
النضج
وعن ذلك يقول وليد: «في البيت، ومع خلوتي بدأت أتلمس آثار الأيام السابقة في دفعي إلى شيء من النضج المبكر، وأفكر بأن الوقت حان لأتعامل مع نفسي والآخرين بكثير من التوازن اللائق بشاب صقلته تجارب مبكرة، إلا أنني لا أستبعد عن تحقيق رغبة في التوجه إلى من استهان بفعل التساؤل الذي كنت أعتقد أنه السبيل إلى اكتساب المعرفة فأقول له من أعطاك الحق لتقرر ما هو حق».
قصة طرده من المدرسة في صف البكالوريا
يروي وليد في سيرته الذاتية هذه الحادثة: «كان أستاذنا لمادة الديانة قد جاء من دمشق، واعتدنا عليه منذ الأسابيع الأولى وهو يمزج المقرر بأحاديث جانبية شدت الطلاب إليه، فيتحول الدرس إلى متعة لنا وبخاصة إذا ما سمح لنا بالاستفسار عن موضوع أو إبداء الملاحظات. وكان الأستاذ بيطار طويل القامة تذكرنا لحيته السوداء المشذبة مع الطربوش الأحمر الذي لا يرى مع غيره بصورة لزعيم جماعة الأخوان المسلمين بمصر (حسن البنا)، وبالرغم من تعليقاتنا المتفرقة حول ذلك التشابه فإن أحداً من الطلاب لم يُشِر إلى ذلك في حضور الأستاذ. واستفاض الأستاذ ذات مرة في الحديث عن الموت. وذهب في تصوير قبض الروح وهو من اختصاص الملاك عزرائيل الذي يحمل بيده حبلاً، فكأن الموت يحدث بشكل أشبه بعملية الشنق المعروفة. ويوم يحين وعد الموت يلتف الحبل حول العنق لتنتقل الروح إلى بارئها في السماء». وهنا طُرح سؤال وليد، ودار حوار بين الأستاذ ووليد الذي أردف يقول: «ألا تعتقد يا أستاذي بأن مثل هذه الصورة البدائية للموت تعود إلى تفكير أسطوري أظنه انبثق عن المعتقدات اليهودية»، ويذكر وليد في سيرته ما يلي: «آنذاك هتف الأستاذ بيطار ساخراً: "وما هو البديل عندك أيها الشاب الفهيم، هيا حدثنا عن البديل". وكنت للحظات لا أملك أي جواب على سخريته، إلا أنني أُلهِمت فجأة بحل أقدمه، فقلت: "الجميع يعرف الكثير عن الهاتف، فنحن إذا أردنا الاتصال بأحد طلبنا من السنترال المركزي الرقم المطلوب، وهناك يقوم العامل في المقسم بوضع الفيشة في ثقب الرقم ليتم الاتصال بين الطرفين، وإذا ما انتهت المكالَمَة يعود العامل إلى سحب الفيشة. وهكذا هي الولادة والموت، وصل للروح بالجسد أولاً ومن ثم قطع الاتصال بين الاثنين فيكون الموت". انفجر الطلاب بالضحك، بينما الأستاذ واقف يتأملني بصبر أنهاه بهتاف ساخر: "وهكذا قام طالبنا العبقري بتصوير الله وكأنه مدير الهاتف"، ثم صاح غاضباً: "ألا تخجل من هذا التشبيه أيها الكافر، الويل لك"، وامتدت ذراعه وقد اقترب مني كي تسقط كفه على وجهي، فلم يكن أمامي سوى الإمساك بالذراع بقوة شاب أرد العدوان عني. فإذا به يصرخ بذعر: "وتريد أن تضرب أستاذك يا كافر"، وينفلت خارجاً من الصف وهو يردد: "لا يكفيه التجرؤ على الدين فيضرب أستاذه، الويل لك يا كافر».
إذن، بعد هذه الحادثة التي أوشكت أن تطرد وليداً من التجهيز الأولى وكافة المدارس السورية، انتهى الأمر إلى طرد الطالب وليد حتى نهاية العام الدراسي الحالي. وصلت الأحداث إلى مسمع الوالد فما كان من هذا الأخير إلا أن اجتمع بصديقه مدير الثانوية الذي استدعى بدوره أستاذ الديانة ليخرج الاجتماع الثلاثي عن قرار جديد. وأعلمه الوالد أن الأستاذ بيطار سيكون بانتظار وليد لتقديم الاعتذار الذي سيعقبه إلغاء طرده فيعود إلى الانتظام في دراسته كما الحال من قبل، فيكون ختام القضية سعيداً.
ويذكر وليد في سيرته الذاتية ما جرى على النحو التالي: «وجاءت لحظة الاعتذار في الموعد المتفق عليه. توجهت إلى المدرسة فإذا بمشهد غير مألوف لي، الممر الطويل إلى المبنى الكبير يحتشد على طرفيه أعداد من الطلاب، فأسمع من طرف أقوالاًَ تندد بالكفر وتنذرني بعقاب أليم، ومن الطرف الآخر يأتيني تحذير من أن أخضع للقوى الرجعية، فكنت أتقدم تتجاذبني المواقف المتضاربة دون أن تثنيني عن الالتزام بوعدي إلى الوالد. وظهر لي الأستاذ بيطار قادماً من الداخل. توسط مجموعة من الطلاب التفّت من حوله على الدرجات الثلاث وقد انتصبت قامته واقفاً على أعلاها. كنت قد عرفت عن جموع الطلاب على طرفي الممر، منهم من كان من جماعة الإخوان المسلمين وحزب الشعب والحزب الوطني، وفي المقابل كان طلاب من الشيوعيين والقوميين السوريين وحزب البعث الذي أُشهِرَ حديثاً في المدينة. وإذا ما وصلت إلى المدخل مقترباً من الأستاذ بيطار، مددت ذراعي لأصافحه وأنا أقول: "أعتذر عما فعلته"، فإذا هو يمتنع عن مد ذراعه ويهتف بصوت مرتفع: "أريد منك أن تُسمِعَ جميع من في المدرسة اعتذارك وندمك على ما فعلت"، فوجدت نفسي أتابع التزامي وأرفع صوتي: "أقدم اعتذاري للأستاذ بيطار"، فما كان منه إلا أن هتف عالياً: "وأنا أرفض اعتذاراً من كافر"، واستدار عائداً إلى الداخل، وهنا لم أملك نفسي من الصراخ غاضباً: "وأنا أسحب اعتذاري. أسحب اعتذاري. أسحب اعتذاري". وسيحدث ما لم تشهد المدرسة مثله، اشتبك طرفا الممر، فكانت العصي والجنازير تلوح في الهواء، والتهديدات المتبادلة تتصاعد في الجو. ولم يكن لي من ملجأ أبتعد فيه عن العنف سوى اللجوء إلى داخل المبنى. وحضرَت الشرطة في وقت قياسي، اقتحمت المدرسة وفرقت المتعاركين، فكان يوم لا أنساه». وهذا كان يومه الأخير في الثانوية حتى آخر العام الدراسي.
الفشل في اجتياز امتحانه الأول
يقول وليد حول هذا: «ما من تعليق على فشلي في الامتحان. وإن كانت عيون الأهل تحاول أن تخفي شيئاً من الأسى. لم يكن هناك لوم من أحد أو إشارة إلى تقصير بل كانت كلمات والدي لا تحمل سوى نوع من العزاء: "الفشل في النجاح هذه السنة سيعقبه نجاح غداً، تلك هي لعبة الحياة يا ولدي، فلا تيأس". كان لم يبق مع والديَّ سوى أنا وشقيقتي، بعد أن غادر نزار إلى فرنسا وعدنان إلى مصر للدراسة، وكنت قد اعتزمت أن أتقدم إلى الامتحانات كطالب حر وأساعد والدي بعمل أحصل عليه، فالأعباء باتت ثقيلة ولابد من مساندة له. وحمل والدي البشارة بعد أن عثر لي على عمل لن يتعارض مع دراستي. أصبحت جابياً أجمع إيجارات من عدد من الأملاك المنتشرة في المدينة لصالح مديرية الأوقاف، فأحصل على نسبة مئوية كأجر لي على العمل الذي أقوم به في أول كل شهور ثلاثة. عشرات المنازل والدكاكين ودار للسينما واحدة، كانت تشكل القائمة فقمت بوضع برنامج للزيارات سمح بتنظيم وقت الدراسة. وهكذا شكلت الجباية علامة في سلسلة أعمالي بدءاً من مصنع الحلوى إلى تجارة سوق الجمعة وسوق بالستان والدروس الخصوصية الخائبة. وانتهت علاقتي بالجباية قبل شهر من موعد الامتحان، فتساوى عندي الليل بالنهار، فالنوم قليل والطعام يرافق الكتاب، ولم يعد هناك وقت لقراءة خارج المنهاج أو لمشاهدة فيلم مهما كان شأنه. وتحول سطح العمارة إلى مقر دائم للدراسة، فكان يتحول إلى مساحة أهرول فيها إبعاداً للنعاس وتنشيطاً للدورة الدموية بعد طول جلوس. وإذا ما أطلُّ على الشارع من تحتي في الليل المتأخر، تؤكد لي حركة السيارات والمشاة أن الحياة مازالت قائمة وأن الفائز في سباقها لن يتحقق له النصر إلا بمزيد من الإصرار وتحمل المعاناة. ومنذ اليوم الأول للامتحانات بدأت أشعر أن تجاوز المرحلة الصعبة يقربني حتماً من تحقيق أحلام المستقبل».
النجاح
يقول وليد في سيرته الذاتية: «الراديو كان الوسيلة الوحيدة لمعرفة نتائج امتحانات شهادة البكالوريا، وما أن جاء المذيع على ذكر اسمي حتى قفزت في الهواء كلاعب في السيرك تحميه من السقوط شبكة الأمان، فكان احتضان والديَّ لي هو الأمان والسعادة التي غمرتنا في نهاية القلق الذي تسبب به الانتظار. وتجدد الفرح عندما عدت بعد يوم حاملاً العلامات التي حصلت عليها، والتي أهَّلتني، لدخول كلية الطب في جامعة دمشق. إلا أن التزامي بوالدي دفع بي إلى دمشق التي قصدتها لأسجل في السنة التمهيدية المؤهلة لدخول كلية الطب. وكانت المصادفة هي التي جمعتني لحظة وصولي بزميل الدراسة الذي سبقني في دخول الجامعة. وقد دفعه التباهي بدراسة الطب إلى اصطحابي مباشرة إلى الكلية ليقدمني إلى مبناها فكانت المشرحة في طريقنا فأدخلني إليها، وكأنها كافية ليكون الإنسان طبيباً. رائحة الكلوروفورم شكلت مع جثة عارية ذلك المشهد الذي سيغير الخطة التي رُسِمَت لي. تراجعت، لا يتملكني سوى القرار الذي اتخذته دون تفكير، فدراسة الطب لن تكون هي المستقبل بأي حال. وكان علي أن أنتسب إلى الجامعة في أي حال لأضع والدي أمام حقيقة الواقع، فكان التسجيل في كلية الآداب هو ما عزمت عليه. وكانت الدراسة في هذه الكلية لا تستوجب التزاماً بالدوام، وبهذا أستطيع أن أعمل لأساعد والدي. وبات الأمر واقعاً، وأصبحت أملك القرار لوحدي في رسم مستقبلي. وفوجئت بوالدي وهو يصغي إلى تفاصيل ما حدث في دمشق يعلّق بحزن خفي: "هو مستقبلك أنت يا بني، وأنت مؤهل لاتخاذ قرارك بنفسك". إلا أن أخي عدنان عبر اتصال هاتفي من الاسكندرية كرر دعوته للانتساب إلى الجامعة فيها، وأغراني بوصف الحياة الجامعية وكأنها حلم لأمثالي، وطلب مني أن أتقدم بأوراقي إلى مكتب البعثات المصرية في دمشق قبل ضياع الفرصة». وهكذا ذهب وليد إلى مكتب البعثات في دمشق ليقابل المسؤول هناك الذي رحب به وقال له أن علاماته تؤهله لدراسة الطب هناك، ولكن وليد ارتأى له أن يُسجِّل في كلية الزراعة في جامعة الإسكندرية، فلا يحقق النجاح فيها فيحق له بذلك الانتقال في السنة القادمة إلى كلية الآداب. وهكذا كان، فقد انتهى الأمر بوليد أن سجل في كلية الزراعة في جامعة الإسكندرية.
مصر
يقول وليد في سيرته الذاتية: «كانت أيام إعلامي بالالتحاق بكلية الزراعة كمستودع تتجمع فيه أحلام وخيالات حول مصر التي درس فيها والدي منذ زمن، وهي البلد الذي يعيش فيه طه حسين والعقاد ونجيب محفوظ. مصر وطن أم كلثوم وليلى مراد ونجيب الريحاني وبيرم التونسي. بلد السينما والمسرح والموالد الشعبية. ومصر كانت بالنسبة لنا وطن الثورة التي أطاحت بفساد النظام الملكي وصدرت حرارتها إلى أرجاء الوطن العربي. وكانت صورة مصر لشاب مثلي أفضل من فرنسا التي كانت الدراسة فيها تمثل حلماً لأجيال، فالأفلام المصرية والمجلات التي قدمت لنا عالم مصر الجميل ببساطة أهله وتدفق مياه نيله وشموخ أهرامه، فبدا ذلك العالم أمنية في زيارة، فكيف بسنوات دراسة تعيشها. وابتدأت الطائرة رحلتها مع شمس الخريف في حلب، لتحط في مطار الإسكندرية الغارقة أرضه بمياه الأمطار. وكان المساء الذي تلمع الأضواء فيه يخفف من وطأة الاستقبال الذي لم يكن متوقعاً. وحملني التاكسي إلى عنوان أخي عبر شوارع مازالت تستقبل الأمطار، فكان وصولي إليه يترافق مع لحظة توقف السماء عن غضبها. وأنساني استقبال أخي كل ما واجهته من انغلاق المدينة.
في اليوم التالي، كانت الإسكندرية مشرقة بشمسها ودفئها وكأنها لم تشهد في ليلتها السابقة إجهاض الغيوم. وقادني أخي إلى مبنى كلية الزراعة ليضع مدخلها بين يدي قائلاً: "هنا ستمضي أيام دراستك"، وانفلت عائداً إلى كليته. واعتبرت أن السماء الصافية وهي ترسل بأشعة الشمس الذهبية هي مراسم الاستقبال الرسمية للوافد من حلب».
موجز سريع لحياته بعد إنهائه دراسته في كلية الزراعة
أنهى دراسته الجامعية بكلية الزراعة في جامعة الإسكندرية بمصر، وحصل على البكالوريوس عام 1958، ودبلوم الدراسات العليا عام 1960. ثم عمل في مؤسسة حلج وتسويق الأقطان بحلب حتى سنة 1999. وكان محاضراً في كلية الزراعة بجامعة حلب (1960 – 1971)، اُنتُخِبَ نقيباً للمهندسين الزراعيين ثم عضواً في مجلس الشعب (1999 – 2002). كما اُنتُخِبَ في مجلس اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وكان رئيساً لفرعه بحلب، أسهم في تأسيس مسرح الشعب والمسرح القومي والنادي السينمائي بحلب، وشارك في هيئة تحرير مجلة «الحياة المسرحية» الدمشقية.
نظرة في بدايات حياته الإبداعية
يذكر الكاتب خليل صويلح عن بدايات أديبنا الكبير وليد: «مجلة الاعتصام التي أسّسها والده في عشرينيات القرن المنصرم، قادت خطواته الأولى إلى الكتابة. قرر بدوره أن ينشئ مجلة، لكن أحلامه أُجهِضَت بسبب شروط قانون المطبوعات التي لا تتيح لفتى صغير إصدار مطبوعة. لاحقاً سيكتب قصيدة ضد "مشروع إيزنهاور"، ويوجهها إلى الرئيس الأميركي. قرّر يومذاك أن يذهب إلى بيروت، لمقابلة رضوان الشهال صاحب مجلة "الثقافة الوطنية"، طالباً نشرها في المجلة، فتسلل عبر الحدود، لأنه لا يحمل بطاقة هوية. لكن الشهال نصحه بألا يقلد أسلوب أحد: "كنت أقلّد قصيدة كتبها عبد الرحمن الشرقاوي ووجهها إلى الرئيس الأميركي". تلك النصيحة علمته أن يكون مجدِّدَاً ومبتكِراً في كتاباته، ما قاده مبكراً إلى دروب التجريب، سواء في الرواية أو في المسرح. هكذا جائت روايته الأولى "شتاء البحر اليابس" (1965)، بمثابة تمرّد على السرد التقليدي في الرواية السورية».
وضعه العائلي
يذكر الكاتبان نبيل سليمان وبو علي ياسين في كتابهما «أيديولوجيا الأدب في سوريا في نهاية الستينات وبداية السبعينات» أن أديبنا وليد إخلاصي في تلك الفترة كان متزوجاً ولديه ولدان.
أزمة قلبية
يذكر الكاتب خليل صويلح: «المهندس الزراعي الذي عمل سنوات طويلة خبيراً للأقطان، يكتفي اليوم بمراجعة مسودات رواياته ومسرحياته، بعدما توقف عن الكتابة للصحافة. فالأزمة القلبية التي ألمّت به قبل سنوات، اضطرته للتوقف عن تدخين الغليون»، ويعني بقوله «منذ سنوات» بدايات سنوات الألفين.
الوظائف التي شغلها
اُنتُخِبَ في مجلس اتحاد الكتاب العرب بدمشق، وكان رئيساً لفرعه بحلب، وشارك في هيئة تحرير مجلة «الحياة المسرحية» الدمشقية. وهو عضو هيئة تحرير مجلة «الحياة المسرحية» التي تصدرها وزارة الثقافة.
عالميته
قدمت الفرق المسرحية عدداً كبيراً من أعماله الدرامية في سورية، مصر، الكويت، الإمارات العربية، لبنان، تونس، قطر، البحرين، المغرب، العراق، وليبيا. وقد تُرجِمَت نماذج من أعماله إلى أكثر من لغة عالمية منها الإنكليزية، والفرنسية، والروسية، والألمانية.
الجوائز التي نالها
نبيل سلامة
اكتشف سورية