الرومنطيقية
لقد كانت الرومنطيقية Le romantisme حركة احتجاج، احتجاج مفعم وجْداً وحماسة وعاطفة ومتناقض، ضد العالم الرأسمالي البورجوازي، عالم "الأوهام الضائعة"، وضد التفاهة الفظة للأعمال والربح. وكانت الانتقادات القاسية التي أطلقها الرومنطيقي الألماني "نوفاليس" ضد قصة "ويلهلم مايستر" لغوته، نموذجاً لهذا الموقف (برغم كون فريدريش شليغل، وهو رومنطيقي آخر، لم تجف مدائحه لهذه الرواية العظيمة). ففي "ويلهلم مايستر" يقدم غوته القيم البورجوازية في معنى إيجابي، ويرسم الخط الذي يقود من النزعة الجمالية إلى الحياة الناشطة، في إطار هذا العالم البورجوازي التافه. لكن نوفاليس كان راغباً عن سماع هذا، ويقول: "إن المغامرين والمهرِّجين، والغانيات، والتجار الصغار، والمرتزقة يملؤون هذه الرواية. ومن يأخذها مأخذ الجد لن يقرأ غيرها أبداً".
وابتداء من "خطب" روسو، إلى "بيان الحزب الشيوعي" لماركس وأنجلز، كانت الرومنطيقية الموقف السائد في الفن والأدب في أوروبا. فالرومنطيقية كما تتجلى في الوعي البورجوازي الصغير، هي أكمل انعكاس، في الفلسفة والأدب والفن، لتناقضات المجتمع الرأسمالي في غمرة نهوضه. ولم يكن ممكناً، إلا مع ماركس وأنجلز، التعرُّف على طبيعة ومنشأ هذه التناقضات، وفهم جدلية التطور الاجتماعي، وإدراك أن الطبقة العاملة هي القوة الوحيدة القادرة على التغلب عليها. فالموقف الرومنطيقي لم يكن بوسعه أن يكون إلا مبهماً، ذلك لأن البورجوازية الصغيرة كانت التجسيد ذاته للتناقض الاجتماعي، وكانت الطامعة في الحصول على نصيبها من الاغتناء العام، وهي مع ذلك تخشى أن تنسحق سحقاً مميتاً في غضون الطريق، وتحلم بإمكانيات جديدة، ولكنها تتشبث بالطمأنينة القديمة، وبالمراتبية، والنظام، وتتجه بأبصارها نحو العصور الجديدة، ومع ذلك، فكثيراً ما كانت تتطلع بحنين إلى "الأيام القديمة الطيبة".
لقد كانت الرومنطيقية، في البدء، تمرداً بورجوازياً صغيراً ضد الكلاسيكية وطبقة النبلاء، وضد القواعد والأنماط، وضد الأشكال الأرستقراطية، وضد مضمون استبعدت منه جميع المسائل العادية. ولم يكن بالنسبة لهؤلاء الرومنطيقيين المتمردين ثمة موضوع ممتاز: فكل موضوع أضحى صالحاً في الفن. وقد قال غوته في شيخوخته، في الرابع عشر من آذار سنة 1830، وهو المعجب الكبير بستندال وميريميه:
"إن المبالغات والتطرفات ستختفي شيئاً فشيئاً، لكن ثمة ميزة كبرى ستبقى في النهاية: فإلى جانب الحرية الشكلية الكبيرة ثمة مواضيع أكثر غنى وأكثر تنوعاً قد انوجدت، ولن يستبعد بعد اليوم موضوع في العالم اللامتناهي التنوع، وفي الحياة المتشعبة، باعتباره موضوعاً غير شعري".
وبرغم معارضته لكل ما كان يدافع عنه غوته، فان نوفاليس قد رأى أيضاً أن الرومنطيقية قد شجعت المعالجة الشعرية للموضوعات التي كانت، حينئذ، محرمة. وقد كتب يقول:
"إن النزعة الرومنطيقية ترمي إلى إضفاء معنى رفيع على الأشياء التافهة، ومظهر باهر على الأشياء العادية ، وإسباغ روعة المجهول على الأشياء المعروفة".
وقد كتب شللي في كتابه "دفاع عن الشعر" يقول: "إن الشعر... يجعل الأشياء الأليفة تبدو كأنها غير أليفة".
وقد انطلقت الرومنطيقية خارج الحديقة المرتبة التي نظمتها الكلاسيكية، واتجهت شطر الأراضي العذراء في العالم الشاسع.
ومع ذلك فالرومنطيقية لم تعارض الكلاسيكية وحسب، بل عارضت أيضاً فلسفة الأنوار. وفي كثير من الحالات، لم تكن هذه المعارضة غير كاملة وحسب، بل وموجهة فقط ضد الأفكار الآلية، والتبسيطات التفاؤلية. صحيح أن شاتوبريان، وبورك، وكولريدج، وشليغل وكثيرين غيرهم (وخاصة في المدرسة الرومنطيقية الألمانية) قد قطعوا مع فلسفة الأنوار علناً؛ لكن شيللي، وبيرون، وستندال، وهايني الذين كانوا أنفذ بصيرة في إدراك تناقضات التطور الاجتماعي، قد أكملوا العمل الذي باشره فلاسفة الأنوار.
إن إحدى التجارب الأساسية للرومنطيقية، كانت رؤية الفرد يخرج، وحيداً وناقصاً، من تقسيم العمل المتزايد أبداً، ومن التخصص، ومن تجزئة الحياة التي تنجم عن ذلك. ففي ظل النظام القديم، كانت المكانة الاجتماعية بالنسبة للفرد، تقوم مقام الوسيط في العلاقات مع الناس الآخرين، ومع المجتمع عامة. أما في العالم الرأسمالي، فالفرد يواجه المجتمع وحيداً دون وسيط، وكأنه غريب بين غرباء، بوصفه "أنا" معزولة في مواجهة اللا "أنا" الهائلة. وقد أدى هذا الوضع إلى تقوية الشعور بالذات، وتنمية الذاتية المليئة بالأنفة، وقد أوجد أيضاً شعوراً بالحيرة والضياع. لقد شجع ظهور الـ "أنا" النابوليونية، وهي في الوقت نفسه "أنا" المتباكية على أقدام الصور المقدسة، الـ"أنا" المتأهبة لافتتاح العالم، وهي مع ذلك مغمورة برعب الوحشة. إن "أنا" الأديب والفنان، المنعزلة والمنطوية على ذاتها، والمناضلة من أجل الحياة، عن طريق بيع نفسها في السوق، تتحدى مع ذلك العالم البورجوازي، وتعلن عن "عبقريتها"، وتحلم بالوحدة المفقودة، وتتوق إلى حياة جماعية يصوّرها لها خيالها، سواء كان ذلك في الماضي، أو في المستقبل. إن الثالوث الجدلي: الموضوع (وحدة المنشأ)، والنقيض (الاستلاب، والعزلة، والتجزؤ) ثم التركيب (حل التناقضات، والتلاؤم مع الواقع، والوحدة بين الذات والموضوع، والفردوس المستعاد) ـ إن هذا الثالوث كان في صلب الرومنطيقية ذاته.
إن كل التناقضات الملازمة للرومنطيقية، قد بلغت ذروتها بتأثير الدفعة الثورية التي كانت بدايتها حرب الاستقلال الأميركية، وكانت نهايتها معركة واترلو. ولقد كانت الثورة والأوضاع التي رافقتها بمجملها في مراحلها المنفصلة، الموضوعة الأساسية للحركة الرومنطيقية. وكانت هذه الحركة تنضم عند كل منعطف للأحداث إلى اتجاهات تقدمية، واتجاهات رجعية. ودائماً كانت البورجوازية الصغيرة تثبت أنها "التناقض المجسد" كما أسماها ماركس في إحدى رسائله إلى شويتزر.
كان القاسم المشترك، بين جمع الرومنطيقيين، الحقد على الرأسمالية (فالبعض كانوا ينظرون إليها من وجهة نظر أرستقراطية، والبعض الآخر من وجهة نظر شعبية). كما كان القاسم المشترك أيضاً الاعتقاد "الفاوستي" أو "البيروني" بجشع الفرد، والقبول "بحقوق العاطفة" (ستندال). وبمقدار ما كان الإنتاج المادي معتبراً، أكثر فأكثر، بمثابة خلاصة لكل ما هو محمود، وخارج مظاهر الاحترام المحيطة بواقع الأعمال القذر، كان الفنانون والأدباء يزدادون جهداً للكشف عن القلب الإنساني، وتفجير ديناميت العاطفة في التناسق الظاهر للعالم البورجوازي. كما أن الطابع النسبي لكل القيم قد أصبح، باستمرار، أكثر وضوحاً بواسطة طرائق الإنتاج الرأسمالي، فإن عاطفة الوجد الشديدة قد أصبحت أكثر فأكثر قيمة مطلقة. وقد قال كيتس بأن الشيء الذي يؤمن به أكثر من سواه، إنما هو "حماس القلب". وفي المقدمة التي كتبها شيللي لمسرحية "المتآمرون" يقول: "إن الخيال لأشبه بالإله الخالد، الذي يتجسد لكي يكفر عن الخطيئة المميتة".
أما جيريكو، الذي كان ديلاكروا يقول عنه بأنه "متطرف في كل شيء"، فقد تحدث في دراسة له عن "هذه الحمّى المهووسة التي تطيح بكل شيء، وتسود كل شيء" و"عن نار بركان لابد لها من أن تخرج إلى وضح النهار".
لقد كانت الرومنطيقية، بالفعل، انفجاراً جباراً. وقد دفعت بالفنانين شطر ما هو وحشي وغريب، شطر آفاق بلا حدود؛ لكنها كانت تعود بهم أيضاً إلى شعبهم، إلى ماضيهم الخاص، إلى طبيعتهم الخاصة. إن كبار الرومنطيقيين قد أعجبوا جميعاً بنابوليون، هذه "الأنا الكونية"، والشخصية التي لا حدود لها؛ ومع ذلك فالتمرد الرومنطيقي قد اختلط بنضالات التحرر الوطني. ففي إيطاليا، حيى فوسكولو نابوليون بنشيد عنوانه "إلى بونابرت المحرر". وفي سنة 1802 طلب إلى نابوليون إعلان استقلال الجمهورية شرقي الألب، أي إيطاليا. ثم انقلب في النهاية حاقداً على نابوليون الفاتح. كذلك شعر ليوباردي بالمرارة والخيبة إزاء رفض هذا المحرر الفرنسي تحرير بلاده، فكتب في صحيفة "كنزوني" قصيدة جاء فيها:
"... هاتوا السلاح، أين السلاح!
سأقاتل وحيداً
وسأموت وحيداً
ولتتصرف السماء بحيث تجعل دمي
يملأ بالنار القلوب الإيطالية".
وفي أوروبا الشرقية، حيث لم تكن الرأسمالية قد انتصرت، وحيث كان الشعب يئن تحت نير القرون الوسطى المتعفن، كانت الرومنطيقية تريد أن تعني التمرد الخالص والبسيط، ونداء الأبواق لإيقاظ الشعب ضد المضطهدين الأجانب والمحليين، ودعوة للوعي الوطني، وللنضال ضد الإقطاعية والحكم الاستبدادي، والسيطرة الأجنبية. وقد أثار شعر بايرون الحمية في تلك البلاد. وأصبحت الإشادة الرومنطيقية بالفولكلور والفن الشعبي سلاحاً لإثارة الشعب على الظروف المنحطة، كما أصبحت الفردية الرومنطيقية وسيلة لتحرير الشخصية الانسانية من عبودية القرون الوسطى. وكانت الثورة الديموقراطية البورجوازية، التي لم تتحقق في الشرق، تومض كالبرق البعيد، من خلال آثار الفنانين الرومنطيقيين في روسيا، والمجر، وبولونيا.
ولكن برغم الفوارق التي ظهرت فيها الرومنطيقية بين بلد وآخر، فقد كانت لها في كل مكان سمات معينة مشتركة: شعور بالقلق النفسي في عالم لا يستطيع الفنان أن يندمج به، وشعور بعدم الاستقرار والعزلة نشأ عنه توق إلى وحدة اجتماعية جديدة، وقفزة نحو الشعب، نحو أغانيه وأساطيره، ("الشعب" كان في أذهان الفنان متصفاً بوحدة تكاد تكون صوفية)، واحتفاء مطلقاً بطابع الفرد الوحيد، بالذاتية البايرونية الجامحة. وظهر الأديب "الحر" لأول مرة، رافضاً كل القيود، طارحاً نفسه كعدو للعالم البورجوازي، ومتقبّلاً في الوقت نفسه، عن غير وعي، المبدأ البورجوازي المتعلق بالإنتاج من أجل السوق. وبرغم احتجاجهم الرومنطيقي ضد القيم البورجوازية، وبرغم انفلاتهم الذي أفضى بهم في النهاية إلى البوهيمية، جعل هؤلاء الأدباء من مؤلفاتهم نفس ذلك الشيء الذي أرادوا الاحتجاج عليه: جعلوها بضاعة للسوق. وبرغم أن الرومنطيقية كالت الثناء للقرون الوسطى، فقد كانت حركة بورجوازية حقاً، وكل المسائل التي نعتبرها اليوم حديثة، تجد جذورها في تربتها.
وبسبب الموقع الذي تمثله ألمانيا بين العالم الرأسمالي الغربي والعالم الإقطاعي الشرقي، وبسبب "البؤس الألماني" الناجم عن تطور تاريخي مفجع، فإن الرومنطيقية الألمانية كانت أكثر الحركات تناقضاً، من بين جميع الحركات الرومنطيقية. ذلك أن "خيبة الأمل في الفنون" كانت قد انتشرت قبل تبلغ الثورة الديموقراطية البورجوازية ألمانيا؛ فتبددت الأوهام قبل أن تتكون تماماً. وهكذا، وفي حمأة التقزز الناتج عما يصحب الانتفاضات الثورية من ارتدادات رأسمالية، اتجهت الرومنطيقية الألمانية ضد هذه الانتفاضات ذاتها، وضد مبادئها المسلم بها، وضد مثلها العليا. وقد رأى هايني في ذلك أساس الاحتجاج ضد الرأسمالية، فكتب يقول:
"ربما كان القرف من عبادة المال المنتشر اليوم، والرعب الذي يوحي به وجه الأنانية البشع، الذي يرونه قابعاً في كل مكان، هما اللذان دفعا، في أول الأمر، بعض شعراء المدرسة الرومنطيقية الألمانية الشرفاء المقاصد إلى الاحتماء من الحاضر بالماضي، وإلى الدعوة للعودة إلى العصر الوسيط".
لقد قال الرومنطقيون الألمان "لا"، للواقع الاجتماعي في زمنهم. لكن السلبية الخالصة المجردة لا يمكن أن تكون موقفاً فنياً دائماً؛ ولكي يكون هذا الموقف منتجاً، لابد له من أن يشير إلى "نعم"، كما يشير الظل إلى الجسم الذي يصدر عنه. ولكن هذه "النعم" لا يمكن، آخر الأمر، إلا أن تكون تأكيداً لطبقة اجتماعية يتجسد فيها المستقبل.
ففي البلدان الغربية، كانت الطبقة العاملة قد بدأت تنهض في أعقاب البورجوازية. وفي الشرق، كان الشعب بأسره (فلاحين وعمالاً، وبورجوازيين ومثقفين) يعارض النظام السائد. لكن الرومنطيقيين الألمان، برغم أنهم كانوا يرون في رجل الأعمال البورجوازي شكلاً كريهاً، لم يكن في وسعهم بعد أن يروا في الطبقة العاملة الألمانية البائسة قوة قادرة على بناء المستقبل، ولهذا حاولوا الهروب إلى ماض اقطاعي، رفعوه إلى مستوى المثال. وبعد ذلك، استطاعوا أن يبرزوا بعض الجوانب الإيجابية التي ضمها هذا الماضي مقارنة بالصفات السلبية المقابلة لها في الرأسمالية: كتلك الرابطة الوثيقة التي كانت تجمع بين المنتج، والحرفي أو الفنان، وبين المستهلك، والطابع الأكثر مباشرة في العلاقات الاجتماعية، وأقوى قوة للشعور الجماعي، وأكبر وحدة في الشخصية الإنسانية التي تعود إلى تقسيم للعمل أكثر استقراراً وأقل ضيقاً. لكن هذه العناصر انتزعت من محيطها، وتبرأت من عيوبها، وأُضفي عليها طابع وهمي قبل أن توضع في وجه الفظائع التي انتقدت بحق من قبل الرأسمالية. إن الرومنطيقيين المتطلعين إلى "كلية" الحياة، كانوا عاجزين عن إدراك الكلية الحقيقية للعمليات الاجتماعية. وكانوا، من هذه الناحية، الأبناء المخلصين للعالم البورجوازي الرأسمالي. وهم لم يدركوا بالضبط أن الرأسمالية بقضائها على كل استقرار اجتماعي، وتحطيمها كافة العلاقات البشرية الأساسية، وتفتيتها للمجتمع، تشق بالفعل، السبيل لوحدة جديدة، من خلال كونها هي نفسها عاجزة تماماً عن أن تنشئ كلاً جديداً، انطلاقاً من الأجزاء.
إن نوفاليس، وهو أكثر الرومنطيقيين الألمان أصالة، وهو الذي جمع بين الموهبة العظيمة والذكاء المرموق، كان على وعي تام بالجوانب الإيجابية في الرأسمالية، وقد كتب العبارات المدهشة التالية:
"إن روح التجارة إنما هي روح العالم. إنها الروح البديعة، التقية والبسيطة. فهي تحرك وتجمع كل شيء. وهي تخلق بلداناً ومدناً، وأمماً، وأعمالاً فنية. إنها روح الثقافة وكمال الإنسانية".
لكن وميض مثل هذه الأفكار، كان غالباً ما يبهت، بسبب الخوف الذي توحيه مكننة الحياة، والآلة، بكل أشكالها. وقد هاجم نوفاليس الدولة البورجوازية والتجارية الجديدة، التي نشأت في ألمانيا بقوله:
"إن الحكومة، بشكلها المعتدل، هي نصف دولة، ونصف طبيعة؛ إنها آلة اصطناعية، سريعة العطب (وبالتالي جد مكروهة من قبل العقول العظيمة) ومع ذلك، فهي موضوع هوس أيامنا هذه. وإذا قدر لهذه الآلة أن تتحول إلى جسم حي ومستقل، فإن المسائل الكبرى سوف تحل".
هنا يكمن مفهوم ما هو عفوي "الذي جابه به الرومنطيقيون الألمان المفهوم الآلي": "إن بداية كل حياة ينبغي أن تكون مضادة للآلية، وأن تكون انفجاراً عنيفاً، ونقيضاً للمفهوم الميكانيكي" وقد برز هذا النقيض (antilhèse) في مؤلفات أ.ت. أ.هوفمان، واشتد إلى أن أصبح مبارزة رهيبة بين الإنسان وبين الآلة، ولم يكن كل نتاج هوفمان "سوى صيحة فزع ملأت عشرين مجلداً" على حد تعبير هايني. وأصبح الإطناب الرومنطيقي بكل ما هو عضوي وبكل ما ينمو أو يتشكل بصورة "طبيعية"، احتجاجاً رجعياً على ما أنتجته الثورة: واعتبرت الطبقات الاجتماعية القديمة، والعلاقات الاجتماعية القديمة أشياء "عضوية"، واعتبرت الحركات والأوضاع التي خلقتها الطبقات الجديدة أشياء "ميكانيكية" خطيرة. يجب أن لا يُعكر "نوم العالم". ولا ينبغي استبدال الليل القديم بالنهار الجديد.
ويتساءل نوفاليس في "أناشيد إلى الليل" قائلاً:
هل ينبغي للصباح أن يعود دائماً؟
ألا تنتهي أبداً قدرة الأشياء الأرضية؟
إن صناعة مدنسة تلتهم
رداء الليل السماوي.
وقد انتقد فريدريش شليغل عبارة (العصور المظلمة) قائلاً بأن هذه "المرحلة الهامة من تاريخ الانسانية" يمكن فعلاً أن تقارن بالليل.
"ولكن، يا له من ليل مرصَّع بالنجوم! يخيّل أننا نعيش اليوم في حالة مبهمة، غائمة، قلقة بين النور والظلام. إن النجوم، التي كانت تضيء هذا الليل، قد شحبت وانطفأ أكثرها، لكن النهار لم يطلع بعد. لقد بلغنا أكثر من مرة نبأ بزوغ شمس جديدة من التفاهم والغبطة الشاملة. لكن الواقع لم يؤكد البتة هذا الوعد الجسور. وإذا كان ثمة سبب في أمل تحقيقه قريباً، فلن يكون شيئاً آخر سوى البرودة الحنون التي، في نسيم الصباح، تعقب الفجر عادة".
إذا ما اقتربنا من عبارة "الأوهام الضائعة"، فإننا نجد عبارة أخرى هي "البرودة"، وهي الشعور بعالم معزول وغير مضياف؛ وهذه النغمة التي عزفتها الرومنطيقية للمرة الأولى، لم تتوقف بعد ذلك أبداً؛ إنها، على العكس ظلت تتصاعد وتتردد طوال مرحلة تطور العالم الرأسمالي، عبر الاستلاب المتزايد في الحياة. وقد صحب هذا الشعور رغبة في إيجاد الدفء والطمأنينة، وشيء ما يشبه، في التخيل، رحم الأم؛ كما صحبه أيضاً شوق للموت، ذلك الحنين إلى الموت الخاص بالرومنطيقية الألمانية. فالوحدة، هذه الكلية الشاملة يجري تشبيهها بالموت:
"كل شيء، ذات يوم، سيصبح جسداً
جسداً واحداً
وسيسبح الزوج السعيد
في الدم السماوي.
آه! لو بمقدور المحيط
أن يصبح أحمر اللون
وتتحول الصخرة
إلى لحم معطَّر".
إن النزعة الجنسية الكونية، والحنين الرومنطيقي إلى الموت، تشيران إلى بعض أفكار سيغموند فرويد، الذي، بمفهومه عن الكائن "الديونيسي" والأبولوني إلى جانب شليغل، مهد فيما بعد لمجيء فريدريك نيتشه. وقد كتب نوفاليس يقول: "ان أعضاء الفكر، هي الأعضاء الجنسية للطبيعة، وهي أرحام العالم".
وكتب أيضاً:
"إنه لما يثير الفضول أن المشاركة في اللذة الجنسية والدين والقساوة لم تستثر، منذ زمن بعيد، الانتباه، حول علاقتها الوثيقة ونزعتها المشتركة".
إن الواقع الاجتماعي عند الرومنطيقيين "ملغى"، إن لم يكن على الأقل مشوهاً بشكل فظيع، وغارق في السخرية. وقد كتب شليغل يقول:
"إن الشعر الألماني يغوص في الماضي غوصاً بالغاً؛ وتمتد جذوره إلى الأساطير التي مازال تيار الخلق فيها يتدفق من النبع؛ وهو لا يستطيع إدراك واقع العالم الحقيقي إلا من خلال السخرية، هذا إذا قدر له أن يدرك".
وكتب نوفاليس أيضاً:
"لابد للعالم من العودة إلى الخيال. ففيه يكتشف معناه الأصلي ثانية... بإضفاء معنى سام على الأشياء العادية، وبإضفاء مظهر غامض على الأشياء المألوفة، وإضفاء عزة المجهول على الأشياء المعلومة، ومظهر اللامتناهي من الأشياء المتناهية.... وواقع كوننا لا نستطيع أن نتخيل أنفسنا في عالم من رؤى مذهلة إنما هو راجع إلى ضعف أعضائنا الطبيعية ومداركنا الحسية.
إن "عالم الرؤى المذهلة" هذا، المتخفي وراء العالم الفعلي، لا يمكن بلوغه بوسائل واقعية، بل لا يمكن ذلك عندما يتوقف الوعي وتتغلب الأحلام. وهكذا يقترح نوفاليس نظرية جديدة للفن، فهو يقول:
"قصص غير متلاحمة، ولكنها تقوم على التداعي، كما يحدث في الأحلام؛ وقصائد ليس فيها سوى النغم، تزخر بألفاظ ذات رنين رخيم، ولكنها أيضاً خالية تماماً من المعنى والتلاحم، وليس فيها سوى بضعة أبيات مفهومة على الأكثر؛ كل هذا يجب أن يكون أشتاتاً من أشياء متباينة كل التباين".
إن هذا الإحساس بالحياة في عالم محطم، عالم مكون من أشتات، وهذا الهروب أمام الواقع إلى التداعيات التي لا معنى لها ولا تلاحم فيها، من أجل إدراك واقع غامض، كل هذه الأفكار، التي نادى بها، للمرة الأولى، الرومنطيقيون الأول، أصبحت فيما بعد مبادىء فنية جد مقبولة في العالم البورجوازي.
لكن الاحتجاج الرومنطيقي ضدالمجتمع البورجوازي الرأسمالي، والهروب إلى الماضي، كان لهما، وجه إيجابي. فهناك "نهار" كما أن هناك "ليلاً". وقد وجد ذلك تعبيراً له في التطلع الملهوف إلى الوحدة والإيمان النبيل بالقدرة الكامنة في الإنسان في أن يصبح سيد مصيره.
لقد كتب نوفاليس بهذا الصدد يقول:
"إن الحياة الجماعية، والتعددية، إنما هي جوهرنا بالذات. والطغيان الذي يحكمنا إنما هو خمولنا العقلي والروحي. وإذا ما وسعنا نطاق نشاطاتنا وتعهدناها، سوف نصبح مصيرنا بالذات... وإذا ما أقمنا الانسجام بين عقلنا وبين عالمنا، فإننا نصبح مساوين لله".
وعلى الأثر تظهر رؤية للمستقبل: "يوم الدينونة، وبداية عصر جديد، مثقف وشعري".
لكن الجوانب السلبية المنكفئة إلى الماضي، أدت أخيراً بالرومنطيقية الألمانية إلى تحول كثير من الكتّاب الرومنطيقيين إلى كاثوليكيين ورجعيين. أخذ فريدريش شليغل يبشر بفن يتسم "بجمال العواطف المسيحية الخالصة"، ويستنكر "الألق الخلّبي الذي يصحب الحماسة المجنونة، تلك الوهدة التي تميل عروسة الشعر عند اللورد بيرون إلى الانحدار إليها". وهكذا، فيما كان بيرون يموت بحمَّى المستنقعات وهو يقاتل من أجل حرية اليونان، وستندال يدعم حركة التحرر الوطني في إيطاليا، وبوشكين يناصر الديسمبريين، تحول العديد من الرومنطيقيين الألمان إلى عملاء لميترنيخ، وحقّت عليهم عبارة هايتي القاسية:
"إن حزبهم لحزب الكذب؛ وهم خدام الحلف المقدس، ومرمّمو كل البؤس، وكل الفظائع، وكل جنون الماضي".
وعندما ندرس الرومنطيقية الألمانية، وسائر الحركات المشابهة التي تلتها، يجب علينا أن نحلل تناقضاتها الداخلية، وأن ندرك دورها السلبي والإيجابي معاً. إننا لنجد دائماً ذات النزاع: فمن ناحية، هناك احتجاج صادق ضد القيم البورجوازية، وضد الآلية الرأسمالية، ومن ناحية أخرى، هناك خوف من عواقب الثورة، وهروب إلى صوفية تؤدي حتماً إلى السقوط في مستنقع الرجعية. فالرومنطيقية الألمانية كانت نموذج جميع الحركات المتناقضة التي انتشرت فيما بعد، في صفوف الأنتلجنتسيا في العالم الرأسمالي، بما فيها الحركات الفنية، من تعبيرية، ومستقبلية، وسوريالية في عصرنا هذا. فالنزاع الداخلي الذي طبع هذه الحركات بطابعه، ينعكس أيضاً في واقع كون الفنانين المنتمين إليها ليسوا جميعاً برجعيين. ففي عداد الرومنطيقيين الألمان نجد أمثال هايني، ونيكولاوس لينو، وقد أصبحا ثوريين. كما نجد أشخاصاً آخرين أمثال أوهلند، وأيخندورف، لم يرتبطوا أبداً "بحزب الكذب".
ويجب أن تتذكر أيضاً أن الرومنطيقية قد اشتركت، إلى حد ما، في عملية النقل الواقعي للمجتمع. فالرومنطيقية والواقعية قد تداخلتا تداخلاً وثيقاً في آثار العديد من الكتاب الكبار أمثال: بيرون، وسكوت، وكليست، وغريلبرزر، وهوفمان، وهايني، وستندال، وبلزاك، وبوشكين، وغوغول: كان العنصر الرومنطيقي يتغلب حيناً، ويتغلب العنصر الواقعي حيناً آخر. وتوماس مان، الكاتب الواقعي الكبير للبورجوازية الحديثة، كان عميق الجذور في تقاليد الرومنطيقية الألمانية، وكان يقدر، بشكل خاص، ذلك اللعب الباهر بالمعاني الذي يرتدي طابع السخرية التي كان مان يصفها بأنها "انعكاس للغرائز الأساسية".
.
إرنست فيشر
ضرورة الفن|
mahmoud :
this information is not enof
you must be make a new
informtion example
the famous champs in this time
tunisia
tunisia
oussama:
looooooooooooooool
tunis
tunis
sherine:
bon cv mais besifa 3ama
la tunisie
ناهد سويسي:
يجب ان تكون الافكار اكثر اهمية
تونس
abdalla:
this information is not enough please i need more ok ok ok
lebanon
amira essahbi:
لا يوجد في هذا الملف مفهوم الرومنطيقية عند الدباء العرب
tunis