مصطفى علي.. انطقْ أيها البرونز
18 كانون الثاني 2015
.
كان على «جميلة» أن تنتظر سبع سنوات حتى تأكل اللحم؛ فتقديم الأضحية من أجل أن يحيا أخوها بعد موت كل الذكور الذين كانوا يولدون بعدها ويموتون دون سبب يذكر؛ جعل الوفاء بالنذر أمراً لزاماً؛ وذلك كي يتمكن شقيقها الصغير «مصطفى علي 1956» من الاستمرار في الحياة. الأضحية ستكون هنا أُولى ملامساته لطقوس سحرية سوف يخوض فيها النحات السوري المولود في أوغاريت ــ رأس شمرا على الساحل الشرقي للمتوسط لأبٍ يعمل في بيع الخضار وأمٍ موظّفة لدى مصلحة التبغ «الري ــ جي»؛ فما أن فتح «علي» عينيه على الدنيا حتى أدرك قوة الأسطورة وبيانها في تكوين وعيه الأول.
سنوات صباه ويفاعته أمضاها ذلك الطفل في مدينة اللاذقية متمرّداً على نصوص الطقس وتعاويذه، ليصطدم باكراً بأيوب ومريم؛ أبويه اللذين حرصا ــ كما كل أبناء الريف القادمين إلى مدينة اللاذقية ــ على تربية أولادهم وتعليمهم. من هناك تفتّحت مدارك الصبي على ذاك المرج الرملي الواقع خلف بيت أهله في آخر شارع الجمهورية؛ فمن طين المرج وطمي سواقيه عجن «المثّال الصغير» منحوتاته الأولى، مواجهاً برية هذا العالم بأصابعه الغضة، متنفساً عبق مخلوقاته الأولى التي مزج صلصالها البدائي بنباتات السماق والزعتر البري؛ هكذا لن يكون صدفةً أن تتحسس أضراسه الطرية حبة اللؤلؤ في محارة كان قد همّ بتناولها كغذاء فقير تدبره ورفاقه من الصبية بعد يوم من القصف واللهو مع الأمواج والرمل: «حبة اللؤلؤ قالت لي: إن الحظّ يقف إلى جانبي، حبة اللؤلؤ تلك كانت رسالة البحر لي».
شبَّ الصبي ذو الشعر الطويل الأحمر على صوت «أيوب علي» الأب الذي كان يرتّل السير الشعبية لأبنائه الثمانية في سهرات العائلة، مغنيّاً أشعار الزير سالم وعنترة والهلالي. في بيت الكفاف سعى «علي» إلى انتزاع ركنٍ منه كي يكون بمثابة مكتبته الأولى؛ فالفتى الطالع نحو العالم بخُصلةِ شعرٍ ملونة كان دائماً شغوفاً بروايات دستويفسكي وكتب جبران خليل جبران والمنفلوطي وسارتر: «جلبتُ بعض الأخشاب وقمتُ بتشييد مكتبتي التي كنتُ أرممها من كتبٍ أبتاعها بما تيسر لي من مالٍ كنتُ أجنيه من شغلي في العطل الصيفية، ولطالما كنتُ حريصاً على زيارة مسقط رأسي في رأس شمرا، المكان الذي كنتُ أذهب في طفولتي إليه منذ الصباح قبل أن يخبرني أبي أنني ولدتُ هناك، تماماً كشعوري الذي لا يفارقني عن أماكنٍ أعرفها دون أن أزورها، فأنا أعرف أن لي بيتاً ينتظرني كي أزوره في سان بطرسبورغ؛ ورغم أنني لم أذهب إليه ولا مرة، إلا أنني واثق بأن مكاناً هناك سوف أقضي فيه آخر أيامي عندما أقرر ذلك، لكن مهلاً أنا لا أموت؛ بل من المستحيل أن أموت إلا بعد ألف عام وأكثر، لهذا أعتقد أن الموت مرضٌ يصيب الآخرين، وليس أنا»..
منابع
نهل «علي» من معين فينيقي متوسطي وصولاً إلى أسلوبية النحت اليوناني ــ الروماني ــ الأتروسكي؛ معتمداً على إبراز العالم الداخلي للمنحوتة، مقترباً من أسلوبية النحات السويسري الوجودي «ألبرتو جياكومي 1900ــ 1966» حيث تبرز قيم النحول والامتشاق لمنحوتاته البرونزية ذات الهيئة الشبحية؛ والحضور الموميائي في أضرحتها المستمدة من عمارة التوابيت الفرعونية والناووس الفينيقي والتدمري؛ مخلّصاً النحتية السورية من بلادة الكتل ووظيفتها النُصبية التذكارية؛ مترجماً ألغازه الطينية إلى كائنات تتناسل في الفراغ، لتظهر هذه الأخيرة وكأنها مخلوقات قُدّت من زواج الفكر بالبرونز والخشب والقماش والبوليستر على حدٍ سواء.
العام 1988 شهد الإعلان عن النحت بالبرونز في معرضه الأول في صالة عشتار الدمشقية؛ حيث سيكون هذا المعرض هو الأول من نوعه في سورية؛ لتتلقف الأوساط التشكيلية هذا الحدث بحماس كبير دفع بـ «علي» إلى الصف الأول من الفنانين الذين طوعوا المادة لصالحهم.
غادر «علي» عام 1991 إلى إيطاليا بعد حصوله على منحة للدراسة هناك من وزارة الثقافة السورية؛ ليمضي الرجل ست سنوات في مدينة «كرارا» مدينة مايكل أنجلو: «كانت تجربة صادمة وعبثية في البداية، حصلتُ في نهايتها عام 1996 على شهادة الدكتوراه في الفنون الجميلة؛ لأعود من بعدها لأؤسس لمشغلي الخاص في حي ركن الدين الدمشقي؛ كان أشهرها منحوتة بعنوان: «الرجال الجوف 50 x 170 x 250 ــ 1998 «عن قصيدة لـ ت. س. إليوت بالعنوان ذاته؛ إضافةً لفوزه عام 2008 بجائزة معهد العالم العربي بباريس الذي اقتنى جداريته الضخمة والتي تزن قرابة خمسة أطنان من الحديد المصبوب ــ «فونت» وتروي منمنماتها الست والثلاثون حكايات من التراث العربي عبر إشارات ورموز طوطمية، لتوضع هذه الجدارية كسقف للمعهد.
الآن بات محترف «مصطفى علي» نواةً لشارع الفن التشكيلي الممتد في مدينة دمشق القديمة، والذي صار موئلاً لتيارات ومدارس فنية وما يشبه زوايا تشكيلية، حيث يعمل «علي» اليوم على إنجاز معرضه القادم بين دمشق ودبي بعنوان «نساء فارغات ــ 30 منحوتة خشب وبرونز ــ X60 30 X 50 » وذلك بعد إنجاز معرضه الأخير بعنوان «وجوه» المنحوتات التي اشتغل فيها هذا الفنان على مادة الخشب؛ محاولاً مكيجة الخشب؛ مجسّداً التباعد بين الأنا والآخر؛ الأنا والذات في زمن الحرب السورية التي أنجزت فالقها الأخطر في بنية الجسد السوري المنهدم بين حافتي الزلزال المتفاقم.
سامر محمد اسماعيل
assafir.com