الفرق الموسيقية الحمصية نوعت في برامجها الغنائية فأطربت الجميع 05/حزيران/2008
بعد أن خبا ضوء مهرجان الثقافة الموسيقية واختّل تواترُ نبضِ إيقاعه، ها هو يعود اليوم للانطلاق من جديد بدورته الخامسة عشرة مشرقاً نابضاً ولعودته شوق وحنين في نفوس أبناء حمص وفنانيها الذين وجدوا في المهرجان ملاذاً لهم يقيهم عَيْب التعاطي مع موجة الضعف والإسفاف التي تجتاح واقعنا الفني. بتلك الكلمات استهل الفنان الموسيقي أمين رومية رئيس فرع نقابة الفنانين في حمص كلمة الجهة المنظمة للمهرجان الذي أقيمت فعالياته على مدار ثمانية أيام على مسرح الشهيد عبد الحميد الزهراوي.
قيامة جديدة لأغنيتنا
لم يكن ما استهل به الفنان رومية كلمته إلاّ صورة صادقة لمسناها بأحاسيسنا خلال أيام المهرجان ونحن نتابع البرامج الفنية التي قدمتها الفرق المشاركة فيه، والتي جعلتنا من خلال النماذج الغنائية التي قدمت نتحسر على الجهد الضائع فيما ينتج اليوم من الأعم الأغلب من الغناء العربي. فالأغنية العربية اليوم تعاني ـ كما ورد في كلمة الفنان رومية ـ من الضياع بين تراثٍ قيِّم يتلاشى وواقع موسيقي راهن لا هوية له، لتقع تحت وطأة محاولات بهلوانية تسمى تحديثاً وهي في الحقيقة تشويه وتزييف، فغابت الموسيقا العربية أو كادت عن العصر وعن مُثُلِه وقيمه رغم امتلاكها إرثاً موسيقياً تاريخياً فاعلاً ومؤثراً، إلى جانب إرثٍ نظريٍّ يمكن أن يكون أساساً للتطوير وإعادة الخلق والبناء. لكن ورغم هذا الواقع يشير رومية إلى أننا لا نعدم تلَمُّس محاولات نبيلة لإبداع أغنيات جديرة بأن تسمع، تحمل في ثناياها سمات المواهب الكامنة المتحفِّزة إلى تطوير فنّنا على أساس فهم الموسيقى فهماً عميقاً ومعرفة أصولها الجمالية وفهم طاقاتها التعبيرية، ومعوّلاً عليها قيامة جديدة للأغنية العربية تعيد لها جلالها واعتزازها بخصوصيتها، وتخرجها من سراديب التطريب الهزيل إلى عالم التعبير والتكوين الدرامي.
عصامية المكرّم وتميّزه
في كلمته عن المكرَّم تحدّث المسرحي والموسيقي محمد بري العواني عن عصامية هشام الصوفي ومثابرته. إنها مكابرته النزيهة الشريفة، ومنافسته البريئة. كما تحدث عن مزاجه عالي الحساسية وإصراره على تعلم العزف وقراءة النوتة الموسيقية، ورأى أنه فعلها وصار عازفاً جيداً على آلة العود بعد أن كان أفضل ضارب رق. وصار قارئاً للنوتة الموسيقية، ويكتبها بإتقان، وإذا به يلحّن، ويعلن عزمه على نهج الغناء السياسي، فكانت فرقة النواة للأغنية البديلة التي قدّم لها عصارة وجدانه وفكره الفني في الانتماء للعروبة أولاً، وإلى القطر العربي السوري ثانياً، رغم أنه لم يفصل بينهما كما ذهب بعضهم. ورأى العواني أن ألحان هشام الصوفي تمتاز بسمتين بارزتين وهامتين. الأولى وهي تلك البساطة التي تغلّف اللحن مع ميل إلى قِصَرِ الجملة الموسيقية لِيَسهلَ حفظُها من الناس أولاً، وتطريزٍ شفاف بالطرب الجميل، رغم أن قَصَرَ الجملة الموسيقية يذهب بالطرب في الأعم الأغلب. أمّا السمة الثانية فهي بروزُ الإيقاع المتنوع الأوزان، المتواتر بجمالٍ أخّاذ، لأن هشاماً أستاذ في ذلك. وكانت النقلة الخطيرة في مسيرة الصوفي في رأي العواني حين فاجأه صوت الفنانة المبدعة علياء العيسى الهابط من السماء، القادر على أداء أصعب النغمات والجمل المعقدة والموازين المركبة والامتدادات الإيقاعية الطويلة، والقفلات ذوات العَرَبات الباهرة المدهشة. فكانت لنا أجمل الألحان سمعناها ما بين منتصف الثمانينيات ومنتصف التسعينيات. ويختم العواني بالقول: إذا كنت الليلة أتحدث عنك مستعجلاً باسم نقابة الفنانين في حمص، فإنني أغتنم الفرصة لأقول لك: باسم نادي دوحة الميماس الذي عشتَ فيه طويلاً وغادرته منذ زمن، ما زلتَ في القلب. فمبروك لك ولنا تكريمك، وها إننا ننتظر إبداعاتك.
ألوان تراثية
قدمت لنا الفرق الفنية المشاركة باقة ممتعة من الغناء العربي جلّه من التراث، فقدمت فرقة نادي دوحة الميماس من إعداد وتدريب الفنان برهان صباغ برنامجاً ممنهجاً انقسم إلى ثلاث وصلات الأولى من مقام الكرد، وكما درجت العادة في المهرجانات السابقة تقديم مجموعة من أعمال المكرم، قدمت الفرقة في هذه الوصلة موشحاً من تلحين هشام الصوفي. الوصلة الثانية من مقام النهاوند، والثالثة من مقام العجم،إذ قدمت الفرقة فيها دورين من ألحان الفنان الكبير محمد عثمان الذي تسحر أدواره الألباب. في حين قدمت فرقة نادي الخيام بعض الأغاني لسيد مكاوي وعبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب، وأغنية من أعمال المكرم، وكانت الفرقة بقيادة الفنان مرهف مراد.
أمّا فرقة المكرم الصوفي " أوغاريت " فقد اختارت أربعة أعمال للفنان عبد الحليم حافظ وقدمتها بمناسبة مرور 31 سنة على رحيل العندليب الأسمر، وقدمت الفرقة تحية لرئيسها مجموعة من أعماله. وكان للفنان مروان غريبة وهو عازف كمان ماهر مهمة قيادة فرقتين الأولى لنقابة المعلمين والثانية لنقابة الفنانين، يتابع مع الأولى حضورها المميز ويحيي للثانية حضورها بعد سنوات من الغياب، وتميز برنامج الأولى بالغناء الكورالي أكثر من اعتمادها على الغناء الإفرادي، ميزة الفرقة الثانية. ولطلاب كلية التربية الموسيقية مشاركة مميزة بالعزف الإفرادي على آلات (باسون، كلارينيت، تشيلو، كمان) بمرافقة البيانو، كما قدم الطلاب مجموعة أعمال من موسيقى الجاز أعطت المهرجان نكهة جديدة وضرورية حتى لا يقع في خانة استحضار التراث العربي فقط .
وفرقة نادي دار الفنون التي احتفلت بالذكرى الأربعين لتأسيس النادي قدمت ثلاث وصلات من المقامات الآتية: حجاز، حجاز كار، بيات، ومن المقام الأخير قدمت موشحاً من أعمال المكرّم. وأغنية من تراث الساحل السوري، وأخرى للراحل زكي ناصيف، إعداد وإشراف الفنان أيمن السقا. أمّا الحفلة المميزة التي خصصت للموسيقا الآلية فقد أحياها الفنانان المحترفان حسين سبسبي على آلة العود، وطارق صالحية على آلة الغيتار، وهي بعنوان حنين. قدّما فيها الأعمال التالية: من وحي الأندلس، غابة الصنوبر (تانغو نهاوند لأمير البزق محمد عبد الكريم)، نهاية يوم، سلمى، تنويعات على ألحان من التراث السوري (أسمر اللون، يا محلى الفسحة)، حنين، قبلة لأوتاري، نزوة عربية (تراث أندلسي)، وداع، واختتمت الأمسية برقصة الشيطان لأمير البزق. وجمال هذه الأمسية يستدعي تخصيص أكثر من أمسية في مهرجانات قادمة للموسيقا الآلية سواء للمحترفين أو الهواة، فالموسيقا الآلية لا تقل شأناً عن الغناء بل أحياناً تتفوق عليها من جهة الإبداع والمتعة التي توصلها للمتلقين.
مقترح وإشارات
وتحية لصوت الشباب
لم يمنع الوقت المتأخر للأماسي الموسيقية التي أقيمت عند الساعة التاسعة مساءً الجمهور المتعطّش للفن الأصيل من متابعة فعاليات المهرجان، وذلك على غير عادة إقامة الفعاليات في مثل هذا الوقت.إن حضور د. غانم السمان عميد كلية التربية الموسيقية سابقاً لحفلة من كانوا بالأمس طلابه وغياب عميد الكلية الحالي عن الحفلة يرسم أكثر من إشارة تعجب!!
كما يلاحظ عدم التزام الفرق بكتابة اسم صاحب كلمات العمل الغنائي والاكتفاء بالإشارة إلى اسم الملحن، وبما أن المهرجان يحمل اسم الثقافة الموسيقية فنستطيع أن نعتبر ذلك خللاً منهجياً يفرض على النقابة أن تعمل على تصحيحه بتنبيه الفرق بضرورة الالتزام بهذه النقطة، وذكر اسم صاحب الصوت الذي قدّم من خلاله العمل الغنائي. ونشير إلى أن فرقة نادي دوحة الميماس كانت أكثر فرقة التزمت بذكر مؤلف الكلمات. مشاركة عازف البزق أمير واضوح بالعزف ضمن ثلاثة فرق يشير إلى اهتمام فرقة نقابة المعلمين والخيام وأوغاريت بهذه الآلة الجميلة، كما تشير هذه المشاركة إلى عدم وجود سوى هذا العازف في حمص وبما أنه في العشرينيات من عمره نتفاءل بحضوره لاحقاً. ونحن إذ نقدر لنقابة الفنانين تكريمها لفنان في كل دورة من المهرجان نود أن نلفت انتباهها لمقترح تكريم الشاعر الغنائي،في دورات لاحقة من المهرجان بما أن الكلمة هي أساس ومنطلق أية أغنية جميلة، ولعلّ الاختيار يقع على أحد الشعراء: عمر الحلبي، سعدو الذيب، عصام جنيد، سمير الطحان، على سبيل الحصر لا القصر، كأصوات شعرية مميزة في كتابة الأغنية السورية تستحق التكريم والاهتمام. أخيراً كان من اللافت أن تنقل إذاعة صوت الشباب على الهواء مباشرة معظم حفلات المهرجان، فهذه خطوة تستحق التقدير والتحية ونتمنى أن تساهم هذه الإذاعة دائماً في نقل الفعاليات الغنائية الأصيلة على أثيرها، لأن هذا النقل يدعم حضور هذه الفعاليات ويكرّسها كفن يجب أن يصل إلى أوسع شريحة من المتلقين.
|