سعى لإسقاط اللباس للتعبير بحرية عن رغبة الروح بالانعتاق من العالم المادي 29/كانون الثاني/2009
في زحمة أحداث الأيام المتوترة وألوانها الرمادية والسوداوية، مرَّ غياب الفنان التشكيلي مأمون البوشي -من مواليد دمشق عام 1965- في صمتٍ وتعتيم شبه كلي من وسائل الإعلام، باستثناء مقالة الناقد الفنان الدكتور محمود شاهين، رغم المسافة الطويلة التي قطعها الفنان الراحل في تشكيل وعرض اللوحة الفنية، حيث أقام سبعة معارض فردية في دمشق والقاهرة، كما شارك في الدورتين الثامنة والتاسعة لبينالي القاهرة الدولي، وبينالي الإسكندرية الدولي عامي 2003 و 2005، إضافةً لمشاركاته في العديد من المعارض الجماعية الرسمية، وعمله بعد عودته من القاهرة في التدريس الفني في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق.
هذه الأحداث الدامية المتلاحقة في منطقتنا العربية، قد ساهمت في الحدِّ من انتشار خبر رحيله المفاجئ، فأهوال الحروب جعلت كل الأحداث الأخرى في مرتبةٍ ثانوية، لذا نعتبر المذابح التي تُقدم يومياً باسم الحرية والديمقراطية بمثابة مؤشر لتدهور قيمة الإنسان والحضارة والفنون، فالفن هو الحلم بالحياة، وهو في النهاية يُشكل صرخة رفضٍ للأوجاع وردة فعل حتمية تجاه لامبالاة الاستمرار في معايشة فصول عاصفة الدوامة المتوترة «دوامة الآلام والإبادة».
مأمون البوشي غاب فجأة ورحل كعاشقٍ متيم بشاعرية النور، فاللوحة التي تركها تمتلك مخزوناً رومانسياً من ناحية رصد الإضاءة القوية أو المتدفقة والمحاطة دائماً بالسواد.
فهو لم يكن من ضمن الظاهرة الارتدادية إلى الفنون العبثية والدادائية، بل كان أميناً لمساره الفني المتواصل في رصد النور الساطع الذي يُنير الوجوه والأشكال، ويجعل لوحاته تترابط على الصعيدين التكويني والتلويني مع منطلقات الاتجاه الواقعي والرومانسي المنبثق من أفكارٍ وهواجس وتجارب وتطلعات بعض فناني المدرسة الكلاسيكية، ومع ذلك لم يكن كلاسيكياً حسب المنهج الكلاسيكي، كان واقعياً يستعرض منهجه التقني الحديث، بإضافة المزيد من السماكات واللمسات العفوية على سطح اللوحة.
ونلاحظ التنويع من خلال تغيير وضعيات المرأة من لوحةٍ إلى أخرى، والانتقال من تجسيد امرأةٍ واحدة إلى تجسيد مجموعة نساءٍ في اللوحة الواحدة، ويبرز التنويع أيضاً في طريقة معالجة الموضوع، حيث كان يذهب إلى إلغاء الخطوطية ويجعلها تبرز في لوحاتٍ أخرى.
ولقد عمل على تجسيد الشكل الإنساني أو أقسامٍ منه عن طريق المساحات اللونية، وضربات سكين الرسم الحادة، وهكذا كان اللون يرق أو يتكاثف وتبرز الخطوط الانسيابية التي تُحدد الشكل الإنساني أو تتراجع لمصلحة بروز المساحات اللونية.
وكان موضوع رسم العاريات في لوحاته يبدأ وينتهي بهواجس فلسفية، معبرة عن الجوهر الروحي الذي يسكن الجسد، بحيث تتخلص المرأة شيئاً فشيئاً من الدلالات الشكلية، بهدف الإبقاء فقط على الحركة الدائمة بين الروح والمادة.
وهذا يعني أنَّه أعطى الجسد العاري معنى آخر، حين سعى لإسقاط اللباس في خطوات التعبير بحرية عن رغبة الروح بالانعتاق من العالم المادي.
وفي بعض لوحاته جمع صور التناقض، حين جسد مجموعةً من الرجال بلباسهم الشرقي التقليدي بجانب مجموعة نساءٍ عاريات، كمحاولةٍ للتعبير عن حريته في الخروج عن المألوف الاجتماعي، وهذه النظرة التي انطلقت منها شكلت في الواقع عودة إلى معتقدات بعض حضارات الشرق القديم، التي كانت تُعتبر التعرية مدخلاً للروح لأنَّها تجعل الجسد بلا خطيئة ولا دنس.
وعلى الصعيد التشكيلي والتقني اهتم بتقديم ملامس ناتئة مشغولة بمواد تأسيس اللوحة، كما ذهب إلى معالجة الجسد وخلفية اللوحة بتقشفٍ لوني برز فيه البني الترابي والمساحات الضوئية، وتفاوت سطح اللوحة ما بين النعومة والخشونة، من دون أن يتجاوز الألوان المتقاربة على امتداد مساحة اللوحة.
|