«حذاء أزرق» شيطنة أنثى تبحث عن لحظة الدهشة!!

03 كانون الثاني 2013

مشاعر فياضة وبحث في تفاصيل الروح والجسد...

«وفي دراسات طبية حديثة أكدت أن 70% من الأزواج يشتهون السكر بعد ممارسة الحب، السكر والحب، إذاً إنها الكيمياء» بهذه العبارة تختم القاصة كندة السوادي قصتها الأولى (مقام الخلوة) في مجموعتها المميزة (حذاء أزرق) الصادرة عن داري النايا ومحاكاة والتي تضم أربعة عشر نصاً قصصياً، وكل نص من هذه النصوص يحمل عبقاً خاصاً ينحو منحى القصة المعروفة لدينا، ويدلف إلى تكنيك القصة الحداثية موضوعاً وتخاطراً وأسلوب كتابة.

الخلوة والهاجس
ما بين الخلوة والتصرف المتخيل، ومشروعية اللقاء بين حبيبين كلاهما يرغب الآخر ويشتهيه، لكن ثمة ما يمنعه من الاقتراب تخيل كلمة ما، تخيل انطباع ما، تخيل تصرف ما أشياء كثيرة تمنعهما من الاقتراب فيبقى هو على حاسوبه، وتبقى هي محتفظة بطفح الأنوثة لتعلقه في إشارة ذكية على الخاصرة وتخشى أو تقول على مؤخرتها كما صرحت البطلة المثقلة برغبات استجمعتها من ذكريات النبع والتقاء العاشقين روميو وجوليت.. ملمحة إلى الثوب الثقافي الثقيل الذي يتجمل خلفه البطل في قراءة كتاب عما بعد الحداثة دون اكتراث لعبق الأنوثة الذي يتشهى تضاريسه التي تؤهله لرحلة عشق، تبدو معالمها من خلال حفظ التفاصيل في اللاوعي.

جعلت القاصة الأمر خلوة، وصنعت للخلوة مقاماً، وكأن العشق، وربما هو كذلك أمر خاص بالتصوف وتعابيره التي تدخل في تلافيف العملية المعقدة لحب مشتهى ومتخيل، لكنها في العبارة الأخيرة تعود بنا إلى حقيقة التلاقي بين زوجين وجسدين، وما يلزم هذين، وما يرغبان به بعد إتمام الحب من حلوى وسكر، وكلاهما السكر والحب يتشابهان في أدق تفاصيل الخلوة، في مقام لا يشبه سواه.

في هذه القصة الافتتاحية لمجموعة كاملة تتحدث القاصة عن التفاصيل اليومية التي تحيط بامرأة ورجل، وتغمز من الموانع العائقة دون أن تخرج لفظاً وتصريحاً عن حشمة مفترضة في كتابة النص الذي يجسد مغامرة هامة للغاية في بيئة شرقية لها خصوصيتها ومستلزماتها. وأزعم أن القاصة نجحت إلى حد بعيد في تركيز بؤرة الحدث في هوامش لم تضعها، فكانت أكثر تشويقاً من أن تسوق الحكاية المتخيلة والمفترضة والواقعية في الوقت نفسه كما هي.

الرصد للحذاء الأزرق
خلت المجموعة من أي إشارة أو تعريف بالكاتبة، وقد حصلت على الكتاب مع أحد الأصدقاء فلفتني بعنوانه، وأردت قراءته، لأجد قصص المجموعة للكاتبة تدور في فلك رصد المشاعر القوية والنبيلة للإنسان في زماننا، خاصة من خلال رؤية الكاتبة وجيلها الذي ننتمي إليه، ومتابعة قصص المجموعة توحي بهذا الرصد الذي ينطلق من مقام الخلوة إلى: نص الغائب في الضجيج، مساحات مفتوحة للعبث، صحون سلمان النظيفة، حذاء أزرق يشبهني، لماذا لا تستطيع ضرب ذبابة؟ عزيزي حبيبي السابق، الثقافة الشعبية، انتهاك الملكة البلاغة، السيرة الجنسية لصديقنا الشاب، بلوز، عصفور السيدة الصغيرة المراهق، تفترض الرائحة يفترض الرسائل، أمي. إليك في حال كنت تملكين حساباً هنا!

ما بين الخلوة والغائب والمساحات والحبيب السابق، والصديق الشاب والبلوز والمراهق والرائحة التي تفوح من رسائل مفترضة تختار القاصة الدوران في عالم مليء بالمفاجآت والحياة، وتنجو ببراعة من صفة النصوص القصصية والروائية الأنثوية المعروفة والمرتكزة إلى شروحات مجانية، يبدو أن الكاتبة أرادت أن تؤسس لنفسها قاصة تأخذ مكانتها ولا تبحث عن فرصتها التي تبحث عنها الأخريات في عالم الكتابة، لذا أسست لحالات ونصوص مهمة دون أن تهوي إلى الابتذال لفظاً وحالة، وقد تكون الحالة أكثر قوة وإغراء بالإيحاء من التصريح.

شيطنة المساحات
وفي مساحات مفتوحة للعبث تمارس القاصة أقصى درجات الشيطنة من تساؤلات عن الجدوى من نضج الأنثى ووصولها إلى الأنوثة الطافحة التي تربكها وتربك الوالد، ثم تعيش هذه الأنوثة في إطار من الفوضى والشيطنة المحببة، فتدلف إلى العالم الثقافي بما فيه من حداثة ولوحات تشكيلية، لتقدم صورة صادقة لهذا الوسط مقابل فهم ملتو له ويأتي السؤال محيراً:

«ما الذي تعرفينه عن الرجال حتى يقعوا في مياهك».
وتكون الرغبة التي قد لا نملك لها حلاً آخر «أنا لا أرغب في العمر سوى صحبتك واهتراء آخر حذاء أملكه معك في أزقة الأحياء القديمة.. أحلم بك في أرقي الصامت.. أرغب في أن أراك حقاً» إنها لحظة الدهشة لفتاة دخلت النضج ولم تدر جدوى الدخول به، وها هي تتسكع في ردهات الثقافة والحداثة والتشكيل، تحب، تشتهي، تشتهى، تحاول أن تنفر الآخر منها، تذهب معه إلى رغباته وأمنياته، لكنها تتذكر أن مساحات النضج لا تشبهها على الرغم من ارتدائها لباس السيدة الصغيرة الذي يعطيها صفة النضج، ثم لا تلبث أن تسرق سيجارة، وتصنع مقالب تعيدها إلى شعور الفتاة التي لم تقنع بأنها نضجت وصارت أنثى!

الحذاء الأزرق والشعور
في القصة التي حملت اسم المجموعة تكتب السوداي بعفوية مطلقة جامعة بين أكثر من امرأة، تلك التي يمرضها البعد عن الزوج والحب، ثم تشتهي أن تكون معه، وتجد أن الأدوية كلها لن تفيد معها، ونصائح الأم لن تعطي نتيجة، وتستعير لذلك عبارات ذات إيماءات جنسية قوية مثل: صهيل أحصنة العابرين، الصاج والشاي والمحمرة، الحمى، الالتصاق الجسدي، الجسد الأنثوي المتعربش، أمومة الأدغال، الاستفزاز الماجن، المرض به... وتدور الأحداث بالمرأة وشعورها تجاه زوج يهملها، ويبدو أنه يستلذ بمجالسة صديقاتها من النساء دون أن يقول، تقف عند حقيقته، وتكتشف حقيقة حاجتها إليه، ولم تصل إلى قناعة بحاجته هو إليها: لكنها تقرر أن تذهب، أن تستلقي على سرير بيتها، سرير العائلة، لا تستجيب لشيء، وترفض أن تمارس الاعتداد بذاتها وأنوثتها وكرامتها متعللة بأنه ليس بين الرجل والمرأة أي مكان لهذا الشعور، ولكنها على ما يبدو كانت بحاجة لمعرفة ذلك الإحساس الخفي داخلها من خلال صديقها المصور الذي دعاها إلى حضور مسرحية، لتكتشف ذاك الحذاء الأزرق الذي ألقي جانباً وأهمل، وتكون اللقطات العديدة، ومنها ما يجمع بينها وبين الحذاء، وهذا ما أوحى به غلاف المجموعة المصنوع بمهارة، لتكتشف ما لم تقله، وما يجرح شعور الإنسان فيها، وهو شعور الإهمال من الرجل الذي تركها كما تركت هذه الفردة من الحذاء الأزرق!

ويبدو أن أرق النضج يمتد لدى القاصة ليصل إلى قصة بلوز التي تحكي تفصيل مشهد يتكرر بين عاشقين، وتفصيل علاقة يومية هي أقرب إلى الحياة الطبيعية التي نراها كل يوم في الطريق مع ما في القص من مكر متبادل بين عاشقين كل منهما أراد أن يكون هو والآخر في الوقت نفسه، ومع المزاج على سور الحديقة العامة تقول ما يختصر رؤيتها «تأملت كل هؤلاء الذين مروا من أمامها في الساعة الثامنة والنصف. كل هذه الألوان، والعالم ليس عارياً بعد، وحتى هذا العري لا يبدو حقيقياً» فالعالم ليس عارياً بعد، ولكنها تراه بعينها الصادقة عارياً، وتحاول أن تكتشف هذا العري إن كان حقيقياً أو لم يكن، وماذا تخفي هذه الألوان تحتها من عري نحبه أو نخافه، أو نفعل الأمرين في الوقت نفسه! وما دلالة الزمن في الثامنة والنصف؟ هل هو عودة إلى بدء القصة عندما سألته ماذا يلبس، فلم يجب لأن المحيطين به من الذكور؟
هل للون من قيمة؟
هل للبلوزة من أثر؟
ما الفرق بين عري حقيقي وآخر غير حقيقي؟

شدتني هذه المجموعة ورأيت فيها صورة أدبية جميلة، وعبارة رشيقة، وجرأة محببة للحديث عما يجول في دواخلنا ولا نجرؤ على الحديث عنه، فقد استطاعت السوادي أن تدخل مجاهل معلومة لدى كل منا، ولكنه لا يطلع عليها أحداً... تحدثت القاصة عنها وشرحتها بأدب وصورة، تستحق على أن تكرس بهذه المجموعة كاتبة جريئة قادرة على بلوغ ما تريد، لكن وفق المعايير الأدبية التي لا تسعى إلى فضيحة وابتذال، ولا أنسى أن أشير إلى تصالحها مع عالمها الذي تعيشه بكل تفاصيله الأنثوية والذكورية، فهل تملك أمها حساباً هنا؟...

قدمت القاصة في مجموعتها حذاء أزرق مشاعر فياضة وقوية في تفاصيل الروح والشعور والجسد للمرأة والرجل على السواء، وبقيت متمسكة بتلابيب القص الذي أجادته وبرعت في تقنياته، وعبرت عن ذاتها وجيلها، فكانت كما هي، وكتبت كما تتنفس.


إسماعيل مروة

الوطن

Share/Bookmark

اسمك

الدولة

التعليق