ممدوح عدوان في ذكرى غيابه
17 كانون الأول 2011
علامة فارقة في الحياة الثقافية السورية
لم تكن مسرحيته «المخاض» عام1967 سوى وصف شعري لحالات توحش الإنسان سواء أكان الجلاد أم الضحية فالاستغلال كقيمة اعتبرت نقطة التحول للشاعر السوري إلى المسرح لتكون البداية بمسرحية شعرية تنتمي إلى ما عرف وقتها بأدب الواقع ليمزج الشاعر القادم من ريف مصياف الأفكار بالمشاعر الإنسانية محولاً إياها إلى موقف يعبر فيها على لسان شخصياته عن مفاهيم فكرية ووجهات نظره جاعلاً من الأدب جزءاً من إنسانية الإنسان وليس مجرد صنعة يطرح من خلالها قضايا تمس المجتمع القروي في ظل الحكم الإقطاعي في سورية قبل عام 1963.
واتخذ ممدوح عدوان من الحقيقة والواقع منهجاً لكتابة خشنة وصدامية بعيداً عن عالم الفلسفة والتفلسف حيث ينبع الموقف الجمالي من خلال الأحداث وينبثق عنها ويكون هو الغاية لا الوسيلة لتصبح الحقيقة هي البطل متمثلةً بالعنف والموت والقتل غير أن الشاعر والكاتب المسرحي لم يقتصر في تعبيره على صراع الفلاح مع الإقطاع بل عبر عن انعكاسات هذا الصراع في واقع الفلاح ذاته فمشكلة الإقطاع لا تتمثل في كتاباته بالظلم المادي إنما تتخطاها نحو القهر المعنوي ممتدةً من خلالها إلى مناحي الحياة كافة.
واستطاع صاحب كتاب «حيونة الإنسان» بمرونة لغته وسلاستها أن ينقذ مسرحه الجديد من الانحدار نحو الجو الخطابي أو أن تكون مجموعة من القصائد المرتبطة فكرياً بإطار مسرحي فاستطاع استعمال التعابير والحكم الشعبية في نصوصه دون أن يفقدها إيحاءاتها مع قدرته على دمج التعبير العامي والفلكلوري باللغة الشعرية الشيء الذي أكد امتلاك الكاتب لغة شعرية مرنة وسهلة قريبة من الغناء والشعر الفلكلوري استطاعت محاكاة الواقع السوري ونبشه.
كما قدم الشاعر الذي يصادف التاسع عشر من الشهر الجاري ذكرى رحيله السابعة مسرحية «محاكمة الرجل الذي لم يحارب» عام 1970 مصوراً فيها مسؤولية أجهزة السلطة في تشويه روح المواطن بعد نكسة حزيران 1967 مبيناً من خلال هذه المسرحية دور تلك السلطة ومسؤوليتها عن السقوط عبر أثر النكسة في الوجدان العربي المعاصر ليقدم بعدها عدوان عام 1973 مسرحية «كيف تركت السيف» ومسرحية «هاملت يستيقظ متأخراً» عام 1980 إضافة إلى مسرحياته «حكايات الملوك» و«الوحوش لا تغني» و«الميراث».
وكتب عدوان أول مونودراماته تحت عنوان «حال الدنيا» لفرقة أحوال محاولاً استنباط لون جديد من ألوان المسرح الدرامي واضعاً أسساً لهذا الفن يناسب المجتمع السوري فكانت نصوصه: «الزبال وآكلة لحوم البشر والقيامة التي تحدث من خلالها عن الهم الفلسطيني شارحاً عبرها الشخصية الفلسطينية النموذجية بالدخول إلى عمق ذاكرتها النازفة بالتعاون مع الفنان زيناتي قدسية كاشفاً تفاصيل معاناتها وهمومها وهواجسها مبرزاً المضمون التاريخي للشخصية الفلسطينية عبر تقديمها بلغة درامية تمكن فيها من تقديم شخصية غير مجردة وغير مثالية».
ونجح ابن دير ماما في نصوصه المسرحية من تحقيق تقدم ملموس في التعامل مع النص الدرامي متخلياً عن الرواسب الإنشائية محاولاً بناء درامية أو مونودرامية تحمل الكثير من مواصفات الكتابة المسرحية الخالصة كما في عرض «سفربرلك" "أيام الجوع" الذي قدمه عام1994 وكتبه بطريقة مغايرة لكتابة النصوص الدرامية فكان عبارة عن مجموعة مشاهد تتوالى على طريقة الكتابة التلفزيونية أكثر مما تتوالى على طريقة البناء المسرحية نسجها الكاتب الراحل من حكايات سكان القرى مستمداً إياها من تراث الريف السوري موظفاً الأغاني التي جعلت من العرض مشابهاً لتقاليد المسرح القديمة في أواخر القرن التاسع عشر.
كما كتب عدوان التاريخي المستقى من الشعبي والديني التاريخي أو ما سمي بالدراما الصوفية مسرحية «ليل العبيد» إضافةً إلى مسرحيات كوميدية اعتمدت في الإضحاك على الكلمة لا الفعل الجسدي التهريجي تاركاً ما يزيد على تسعين عملاً في مختلف الصنوف الأدبية والدرامية والفنية تضمنت الشعر الذي لم يشغله به التجويد التقني للقصيدة على حساب إنسانيته في روءاها العميقة والضرورية وحرصه على الموضوع والرمز إضافةً إلى النثر والرواية والمقتبس والترجمة التي كان يعتبرها بمثابة فتح صندوق من صناديق الكنز الإنساني.
واشتغل عدوان في كتابة الدراما للتلفزيون نظراً لأهميتها للناس وحماية لها من عديمي الموهبة ومروجي التفاهة كالسيرة الشعبية المشهورة «الزير سالم» المستقاة من الأدب الشعبي التي لاقت نجاحاً باهراً عند عرضها ومسلسل «المتنبي» محاولاً في ذلك تحقيق رواية تلفزيونية اعتمد فيها على حساسية عالية في مقاربة التاريخ واستلهامه كمسيرة بدأها بمسلسله جريمة من الذاكرة ودائرة النار معولاً على فن السيناريو الذي درسه في المعهد العالي للفنون المسرحية لسنوات طويلة.
وآمن صاحب رواية أعدائي بأن الشعر هو فعل رفض لسحق البشر وطحنهم ولاسيما منهم جمهور الفقراء الذي طلع الشاعر من بينهم مهاجماً الأدب البرجوازي ورموزه منافحاً عن قدرة الإنسان في صياغة أسطورته الشخصية عبر احترام مكابداته العميقة ضد أي استغلال أو ضيم اجتماعي مدللاً على ذلك بحبه للوطن وضرورة حماية هذه القيمة وافتدائها.. يقول الراحل في قصيدته الشهيرة «الشهيد»: مشيت والصديق دمعتين.. مشيت والصديق دربه الطويل.. كنا نسير فوق حلم دامع.. خطوتين.. خطوتين.. نحمل أسرار الزمان كي نكابد الزمان.. وبغتة فاجأني بأنه شهيدنا الجميل.. ومن يظن بأن هذا العابر الساهم.. يحمل فيه الشهيد سراً قتيلاً.
وللراحل محطات أساسية وبصمات رافقت بناء المسرح السوري الحديث ساهمت في تأسيسه بمواد استقاها من الأسطورة والحكاية والتاريخ والأدب مقدماً التراث وفق رؤية خاصة اعتمدت مراعاة نفسية وذهنية المتلقي و موروثه الثقافي والحضاري فعلى الرغم من توقفه فترة من الزمن عن الكتابة في الستينيات إلا أنه عاد بمسرحية «حكايا الملوك» مشاركاً في تأسيس المسرح الجوال ليقدم بعدها مسرحية «سهرة» التجربة التي لاقت ترحيباً في كثير من الدول التي اهتمت بالمسرح حيث اعتمدت التجربة على نقل العرض إلى الجمهور ما جعل نصف سكان سورية يشاهدونه إذ اعتبرت هذه الحالة حينها بمثابة ثورة ثقافية في الريف السوري.
وحاول صاحب «الدماء تدق النوافذ» على طول مسيرته الأدبية رصد واقع المجتمعات بجعلها من أولوياته محاولاً إثارة اهتمام جمهوره ولعل بعض أعماله المسرحية «سفر برلك» و«الغول» مثلاً خير دليل على ذلك إذ لم يكن ليتخلى عن الواقع المعاش مع حرصه الشديد على ترك مساحة لمخيلة المتلقي.
ورفض صاحب و«الليل الذي يسكنني» تقييده على صعيد الشعر أو المسرح أو الرواية أن يكون نموذجا أدبيا ثابتا بل كان هاجسه الإبداع بأي شكل أدبي يخرج للورق معتبراً أنها وسائل إضافية للتعبير لا يمكن أن يمنحها الشعر فقط فالشاعر يمكن أن يكون مسرحياً والمسرحي بدوره يحتاج إلى التعبير في زاوية صحفية إضافة إلى أن من يعالج صيغة درامية في المسرح بإمكانه أن يعالج الدراما التلفزيونية ولذلك لجأ إلى إعداد الكثير من الأعمال المسرحية مثل نص سكارميتا «ساعي بريد بابلو نيرودا» الذي أخرجه محمود خضور من إنتاج المسرح القومي إضافةً الى تجربته على نص «الفارسة والشاعر» تناص وتلاص مع محمد الماغوط الذي عاد من خلاله لمشاكساته الأدبية.
يذكر أن ممدوح عدوان من مواليد قرية قيرون في مصياف عام 1941 وتلقى تعليمه في مصياف وتخرج من جامعة دمشق حاملاً الإجازة في اللغة الانكليزية وأهم نتاجه الأدبي: المخاض.. مسرحية شعرية والظل.. شعر والأبتر.. قصة وتلويحة الأيدي المتعبة.. شعر ومحاكمة الرجل الذي لم يحارب.. مسرحية والدماء تدق النوافذ.. شعر وأقبل الزمن المستحيل.. شعر وأمي تطارد قاتلها.. شعر, يألفونك فانفر.. شعر وليل العبيد.. مسرحية وهاملت يستيقظ متأخراً.. مسرحية وزنوبيا تنتحر غداً ولو كنت فلسطينياً.. شعر وتقرير إلى غريكو.. ترجمة وحكي السرايا والقناع.. مسرحيتان وللخوف كل الزمان.. شعر ورواية أعدائي.
الوكالة السورية للأنباء - سانا