عبد السلام العجيلي
- مقدمة
- سيرته
- نسبه
- بيئته وصباه
- بداياته الأدبية
- المرحلة الثانوية ودراسة الطب
- بداية العمل السياسي وآثاره
- مرحلة الاستقرار والزواج
- رحلاته
- لقبه وتكريمه
- وفاته
- أعماله
- القصة القصيرة
- الرواية
- المقالة
- أدب الرحلات
- الشعر
- المقامة
- حوارات
- المراثي
- المسرح
- منوعات
- الأعمال المترجمة إلى لغات عالمية
- جوائز
- أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
- القصة والرواية
- المقالة
- المقامة
- المسرح
- الشعر
- عالمية العجيلي
- مظاهر من التجليات الإبداعية عند العجيلي
- الأنيما والأنيموس في أدب العجيلي
- «نموذج المرأة»
- رواية «باسمة بين الدموع»
- نموذج المرأة في رواية «باسمة بين الدموع»
- «المرأة»
- قصة «رصيف العذراء السوداء»
- الأنيما والأنيموس في قصة «رصيف العذراء السوداء»
- المظهر الآخر للأنيما
- قصة «قناديل إشبيلية»
- رواية «قلوب على الأسلاك»
- نموذج المرأة في رواية «قلوب على الأسلاك»
- على هامش الدراسة
- طريقة للارتباط بالجانب الأنثوي
- الخطاب السياسي في أدب العجيلي
- «نبوءات الشيخ سلمان»
- نظرية الأدوار
- الخطاب السياسي في رواية «قلوب على الأسلاك»
- مختارات من أدب العجيلي
- مختارات من مقالة «مذهبي في القصة»
- مختارات من قصة «انتقام محلول الكينا»
- المراجع
مقدمة
يقول الشاعر أدونيس:
«دمشق
قافلة النجوم في سجادة خضراء
ثديان من جمر وبرتقال
دمشق
الجسد العاشق في سريره
كالقوس،
والهلال
يفتح باسم الماء
قارورة الأيام».
إن دمشق الغافية على سفح قاسيون، والتي كان يعبرها بردى ليمضي نحو غوطتها.. كانت ومازالت كالأم الإلهة، القديمة حين كان الرب أنثى..!!
لقد وَلَدَت دمشق شعباً، وَوَلَدَت شعوباً في صمتها، في ياسمينها، في عبق التاريخ المختبئ في زوايا حاراتها القديمة.
كالإلهة الأم كالي تبدو حيناً قاسية، مرعبة، وكالإلهة شاكتي تبدو حيناً آخر رفيقة حنونة. وهكذا شاء القدر، الكبار الذين نعرفهم مروا عبر بوابة دمشق، ومن خلال دمشق، تهجَّوا اسمها، تمتموا أحرفها، وامتلؤوا بها، ثم غابوا في الأعظم..!!
وكان أديبنا عبد السلام العجيلي واحداً منهم، سواء أثناء دراسته للطب أو بداياته الأدبية أو حتى حياته السياسية.
وهكذا نشهد في شخص العجيلي ثلاثة محاور: الطب والسياسة والأدب.
إنها عوالم حلقت فيها روحه الفتية التي امتلأت نوراً من عوالم نجهلها، ولا يعيها العجيلي نفسه، إلا أن روحه كانت تعيها جيداً، وهذا الوعي ما برح يتجلى خلقاً ينساب رؤى، وعوالم متداخلة ومتباينة، نلمحها في أعماله خصوصاً.
إلا أن خصوصية العجيلي ليست في كونه جامعاً لثلاث شخصيات، الطبيب والسياسي والأديب، بل أيضاً في تنوع أدبه بين القصة والحكاية والمقامة والرواية والشعر والمسرح والمقالة.
إن أطباء دمشق القدامى يذكرون العجيلي ومساهماته الإنسانية لوطنه، وكذلك مواقفه السياسية التي انطبعت عميقاً في ذاكرة الوطن.
أما أعماله الأدبية، فهي تبدو كالبرعم الذي وُلِدَ في الرقة، وتفتَّح على امتداد الوطن، أو كالبذرة الصغيرة التي زُرِعَت في أديم هذا الوطن، وكَبُرَت وأصبحت شجرة أغصانها تخيِّم فوق سمائه، حتى أن الطيور تأتي، وتضع أعشاشها عليها..!!
أخيراً، لعلنا نضم صوتنا للدارسين الكبار الذين عرفوا القيمة الإبداعية الكبيرة التي تختبئ في أعمال العجيلي، وهكذا نجدنا نقول: «شكراً لك أيها الغالي، لما أعطيت وأغنيت هذا الوطن».
سيرته
لم يكن في الرقة حين وُلِدَ عبد السلام العجيلي سجلات ثابتة للمواليد، وهو يرجِّح فيما بعد أن ولادته كانت في أواخر سنة 1918 أو 1919.
والده الحاج ويس العجيلي، وهو مزارع وملاّك من وجهاء الرقة، وعمومته مزارعون وملاّكون أيضاً، ويُقال أن عمه وهبي العجيلي قد شارك في حكومة الرقة إبان انسحاب الأتراك من سورية.
والدته مزنة العجيلي، وهي من عائلة العجيلي، ووالد والدته (حميد العجيلي) وعمها (حمدي العجيلي) كانا من المعروفين بتأليف الشعر البدوي.
نسبه
يذكر عدنان بن ذريل أن أسرة العجيلي من عشيرة عربية، وهي عشيرة البوبدران العراقية القاطنة في بادية الموصل في العراق، ولا تزال فروعها إلى اليوم في بادية دير الزور مع عشائر البقارة، وكان جد العائلة العجيلي قد نزح منذ قرن ونصف تقريباً، من الموصل إلى الرها في تركيا، ثم إلى الرقة في سورية، ولا يزال أحفاده في الموصل والرها إلى الآن على تواصل وتزاور مع أقربائهم في الرقة.
أما عشيرة البوبدران فيذكر عبد السلام العجيلي أن مشايخها في الموصل لا يزالون يحتفظون بشجرة النسب التي تثبت أن البوبدران سادة، أي من سلالة السيد الحسين بن علي بن أبي طالب.
بيئته وصباه
من الناحية الاجتماعية، كانت العصبية القبلية تسيطر على حياة الناس في الرقة، والقوانين السائدة هي القوانين العشائرية التقليدية، الثأر والدية، والمقاضاة أمام العوارف (العوارف جمع عارف وهو قاضي العشيرة أو رجل الثقة عند القبائل).
ومن الناحية الاقتصادية كان أهل الرقة، وأسرة العجيلي منهم، يعيشون حياة نصف حضرية لأنهم كانوا في الشتاء يقيمون في البلدة، فإذا جاء الربيع خرجوا إلى البادية يرعون فيها أغنامهم ويتنقلون بين مراعي الكلأ أوائل الخريف.
ويقول العجيلي عن هذه الحياة: «قد عشت هذه الحياة في صباي فأثَّرت فيَّ كثيراً، وقبست منها كثيراً في ما كتبت».
وكذلك: «"حين كنت صغيراً كنت لانطوائي على نفسي أبدو متزمتاً واستمر ذلك إلى أيام شبابي. فكان العارفون بحكايات أسرتنا يعجبون من تقصيري في ميدان العاطفة الذي طالما صال فيه أسلافي وجالوا..».
وكذلك: «نلت الشهادة الابتدائية (السرتيفكا) في عام 1929، وانتسبت في السنة التالية إلى تجهيز حلب. ولكن مرضاً – لا أدري الآن على التحقيق ماذا كان – حال بيني وبين متابعة الدراسة، فرجعت إلى الرقة، وانقطعت عن الدراسة على الرغم من شفائي، مدة أربع سنين، وكان هذا الانقطاع ذا تأثير كبير في حياتي. فقد أتاح لي الانصراف إلى القراءة والاطلاع على كل ما وقع بين يدي من كتب قرأتها بنهم: كتب دينية، قصص شعبية مما يمكن أن يوجد بين أيدي الناس في بلدة مثل الرقة، كتب من الأدب القديم، وكتب التاريخ العربي. وحين عدت إلى تجهيز حلب عدت بذخيرة كبيرة من هذه القراءات المتنوعة مما جعلني أكثر اطلاعاً من كل رفاقي، وفي بعض الأحيان من أساتذتي، في التاريخ، والأدب وأكثر منهم حفظاً للشعر ومعرفة بالشعراء».
«القراءات الدينية، مع البيت المتدين الذي أعيش فيه، ساقتني إلى التأملات الدينية وإلى ممارسة الصلاة والصيام منذ سني الصبا الأولى. وقراءات قصص المغامرات أوحت إلي بأحلام يقظة كثيرة عن مغامرات أنا بطلها..».
بداياته الأدبية
يقول العجيلي في معرض حديثه: «ما بقي في ذاكراتي عن كتاباتي الأولى. بدأت المحاولات في الثانية عشرة من عمري بتأليف تمثيلية حول قصة تاريخية في ضواحي الرقة قرأتها في إحدى الروايات الرخيصة، وذلك في وقت لم أكن أعرف فيه عن المسرح غير ما شهدته من تمثيل إحدى الروايات المسرحية المدرسية. وبدأت كتابة قصة بوليسية لطول ما فتنت بالروايات البوليسية. وحين قرأت "آلام فارتر" بدأت بكتابة مذكرات شخصية أتوخى لها أن تنتهي بما انتهت به قصة فارتر لغوته.
ونظمت مقاطع مقفاة ظننت أنها الشعر حتى أنبأني معلمي في المدرسة الابتدائية الأستاذ ثابت الكيالي أن الشعر له وزن، ولابد أن يتقيد به الناظم، فجهدت حتى أدركت معنى الوزن فنظمت الشعر متقيداً به قبل أن أعرف العروض، ولكني كنت أغني الأبيات على ألحان بعض القصائد الدينية التي كنت أحفظها حتى أضبط أوزانها.
أول ما نشرته كان قصة بدوية بعنوان "نومان" نشرتها لي مجلة الرسالة المصرية التي كان يصدرها الأستاذ الزيات وذلك عام 1936. وقد كان نشر هذه القصة مصدراً لثقة كبيرة في نفسي لم أجهر بها لأحد لأني نشرت القصة بتوقيع ع.ع. ولكن تلك القصة كانت أول ما أرسلته للصحف في حياتي الأدبية. فكونها نشرت مباشرة ودون تأخير وكون نشرها كان في المجلة الأدبية الأولى في العالم العربي، أمران لم يكونا عاديين».
المرحلة الثانوية ودراسة الطب
يذكر العجيلي أن لعودته للدراسة قصة، ذلك أن والده كان يميل إلى إبقائه معه في الرقة لتولي إدارة أعماله وأملاكه، ولكن ميل الفتى إلى الثقافة والمعرفة كان كبيراً. وفي ذات يوم كان شباب البلدة يقومون بتمثيل رواية فأعد العجيلي قصيدة، وعنها يقول: «ربما كانت أول قصيدة صحيحة أنظمها»، وأعطاها لأحد رفاقه ليلقيها كفاتحة للرواية مشترطاً عدم ذكر اسمه، وحين ألقيت القصيدة ونالت الاستحسان ثم عُرِفَ أنه ناظمها، وكان حينذاك في الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، اشتد الإلحاح على والده لإرساله إلى حلب لإتمام دراسته.
وبدلاً من دخوله السنة الأولى في الدراسة الثانوية، قدم فحصاً تجاوز به صفين، وبهذا ضاع عليه من السنين الأربع التي فاتته اثنتان واستدرك اثنتين.
وفي تجهيز حلب يذكر العجيلي أنه قد نال المرتبة الأولى بين كل طلاب سورية في كل من صفي البكالوريا الأولى والثانية، وكانت الثانية في فرع الرياضيات.
بعد البكالوريا الثانية التي نالها العجيلي في حزيران 1938 انتسب إلى جامعة دمشق فدرس فيها الطب طوال سني الحرب. وانتهى من الدراسة بانتهاء تلك الحرب في عام 1945.
وعن هذا نسمع العجيلي: «لابد من القول أني بعد أن نلت البكالوريا كانت نظرتي إلى الحياة قد تغيرت. وبموجب هذه النظرة أصبح لي رأي في أن الدراسة العلمية ليست كل شيء».
بداية العمل السياسي وآثاره
يذكر العجيلي أنه كان ذو ستة عشر ربيعاً حين رُشِّحَ للانتخابات، وتقدم للانتخابات النيابية لأول مرة، وكان يتعين على المُرَشَّح حينذاك أن يكون عمره ثلاثين سنة، فكبَّروا عمره، لكنه لم ينجح في تلك المحاولة.
كما يذكر نبيل سليمان أن العجيلي بعد أن نال الشهادة الثانوية (البكالوريا)، قد سافر لأول مرة إلى دمشق دون علم أهله، وذلك لكي يتطوَّع في صفوف الثوَّار للمشاركة في ثورة 1936، فسعى إلى مكتب المحامي شفيق سليمان الذي كان يساهم في إرسال المجاهدين إلى فلسطين، فخاطب الرجل هذا الشاب: «يا بني ارجع إلى بلدك وتعلَّم. الثورة الفلسطينية بحاجة إلى رصاص وخرطوش أكثر من حاجتها إلى رجال».
وفي عام 1947 اُنتُخِبَ نائباً عن الرقة في مجلس النواب الذي قام في أيامه انقلاب حسني الزعيم.
لم يكد يبدأ عمله السياسي حتى كانت نكبة فلسطين عام 1948، فتطوَّع الدكتور عبد السلام العجيلي في جيش الإنقاذ، وكان في التاسعة والعشرين من عمره، ويذكر العجيلي في هذا الصدد: «في عام 1948، في أوائل ذلك العام تطوعت، وأنا نائب، في حملة جيش الإنقاذ، وهي الحملة التي كان مقرراً لها أن تدخل فلسطين قبل أن يصبح قرار التقسيم نافذ المفعول في 15 أيار 1948، لتنقذ فلسطين وتعيدها إلى أهلها وتطرد اليهود من أرضها قبل أن يصبح لليهود كيان شرعي دولي. وكان جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، إلا أن الطليعة الأولى التي دخلت فلسطين من هذا الجيش كانت بقيادة أديب الشيشكلي وباسم فوج اليرموك الثاني».
وعن ذكرياته في انضمامه لجيش الإنقاذ، يذكر العجيلي: «هذه الصورة الأولى أنا وفوزي القواقلي، فوزي القواقلي جاء إلى دمشق قبل تأليف جيش الإنقاذ والفكرة كانت موجودة وزرته وزملاء لي نائبين عبد الرحمن عظم وأديب نصور، لم نتحدث في ذلك الوقت عن جيش الإنقاذ إنما تحدثنا بأمور عامة فهذا أنا وفوزي القواقلي، ومن ثم هذه الصورة الباقية الأخرى أنا وعبد الحميد السراج كان معنا، عبد الحميد السراج ملازم بالجيش النظامي لكن التحق كذلك متطوعاً بجيش الإنقاذ والثالث الأستاذ محمد عطورة محامي من حماه..».
كما عبَّر العجيلي في حواره الذي استقينا منه هذه الذكريات عن رغبته الاستشهادية في إحدى العمليات، عندما بدأ الجيش يدخل معركته الأولى معركة جدين، وكان يتوجب على سبعة أشخاص أن يتقدموا ويقطعوا الأسلاك الشائكة حول المخيم الذي كان وراءه القلعة والقيام بالمباغتة في الساعة السابعة أو السادسة صباحاً، وكان العجيلي يريد أن يكون أحد هؤلاء السبعة، إلا أن أديب الشيشكلي رفض بحجة عدم تدرب العجيلي على القيام بمثل هذه المهام آنذاك».
ويشير أحدهم إلى أن العجيلي عاد أخيراً من تلك التجربة خائباً ومحبطاً وفاقداً لإحدى عينيه.
كما يذكر نبيل سليمان: «من تلك التجربة حمل الرجل خيبة مريرة ودائمة. ومنها أعطى جملة من أفضل ما كتب من القصة القصيرة، على رأسها قصة "كفن حمود" من مجموعته القصصية "الحب والنفس، 1959" التي جاءت في مقاطع صغيرة تنساب بعفوية على إيقاع خفقات/حسرات وآهات أم حمود وهي تهيئ كفن ابنها الذي استُشهِدَ في فلسطين في حرب 1948، وهو (حمود العجيلي) ابن عم الكاتب. وقبل ذلك، ومن الحرب نفسها، جاءت في مجموعة "قناديل إشبيلية" قصة "بنادق في لواء الجليل" التي ترسم المتاجرة بسلاح المجاهدين في السوق السوداء، وقصة "بريد معاد" التي وصلت بين معركة قلعة جدين (20/1/1948) في فلسطين، وبين مآل المجاهد عبد الحليم الذي كان طالباً في كلية الحقوق في جامعة دمشق، وبات بعد حين من الهزيمة رجل أعمال مرموق ديدنه المال».
وعن هذه التجربة كتب عدنان بن ذريل يقول: «ولكن هذه الحرب لا تفضي إلى شيء، وقرار التقسيم ينفذ بتأييد الدول، وبمساعدة الإنكليز الذين كانوا تخلوا عن فلسطين لليهود، وعرَّضوا الشعب الأعزل فيها لمجازر الصهيونيين. وقد تسبب هذا الوضع وقتها بلجوء ما يقرب من مليون عربي فلسطيني إلى الديار المجاورة.
ثم يعود المتطوعة، ويقوم حسني الزعيم، وكان قائداً للجيش، وحارب في فلسطين، بانقلابه على شكري القوتلي، ويحل مجلس النواب، ويؤلف حكومة مديرين من الأمناء العامين، ويسن للبلاد دستوراً تقدمياً هو دستور عام 1949، كما يحاول تنظيم الإدارة الحكومية، ولكن انقلاب سامي الحناوي لا يمهله، وتعود البلاد ثانية إلى أيدي الساسة القدماء».
مرحلة الاستقرار والزواج
بعد عودته من فلسطين، يعتزل العجيلي السياسة، وينصرف إلى الطبابة في بلدته الريفية النائية على ضفاف الفرات (الرقة)، لكن نشاطه السياسي لم يتوقف بل أخذ بعداً آخر منه، هو الخدمة الإنسانية في عمله كطبيب، وضوع السياسة الذي كان يعبق في أعماله الأدبية المتتابعة.
تزوج في عام 1958 من فتاة دمشقية من أسرة كريمة، وقد كتب لصديقه عدنان بن ذريل عن زواجه يقول أنه كان نصيباً لم تطل مقدماته: معرفة سريعة أعقبت رابطة دائمة.
بعد أربع سنوات من زواجه تولى العجيلي الوزارة في عام 1962 بين نيسان وأيلول من ذلك العام، وزارة الثقافة التي جمع إليها وزارتي الإعلام والخارجية، وذلك في عهد الانفصال الذي أعقب عهد الوحدة السورية المصرية 1958 – 1961.
في السنة التالية لتولّيه الوزارة تُوُفِّيَ والده عام 1963.
على الرغم من كل الأحداث الجسام التي شهدها العجيلي في حياته فإنه اعتبر زواجه الحدث الأهم، وقد رُزِق فيه بأربعة أولاد، كما ذكر نبيل سليمان أن العجيلي فُجِعَ ببكره بشر بعدما بلغ الشباب، وبعيد ذلك كان طلاق العجيلي من زوجته..!!.
رحلاته
يذكر عدنان بن ذريل أن أول رحلة إلى الغرب قام بها العجيلي كانت عام 1951، أمَّ فرنسا وزار باريس حيث مكث فيها ستة أشهر. ومنذئذ كان يقوم بالرحلات سنة بعد سنة كلما سنحت الفرصة، وحتى سنة 1970 زار معظم أرجاء أوروبا الغربية والأميركيتين، وكتب فيها قصصاً غاية في البراعة.
يُذْكَر أن العجيلي في بعض رحلاته ارتأى أن يصطحب سيارته معه للتجول فيها في العواصم الغربية، كما يذكر العجيلي في إحدى رحلاته حين زار باريس لقاءً مع سيدة عرف فيما بعد أنها كانت سيمون دي بوفوار صاحبة كتاب «الجنس الآخر».
من رحلاته هذه استطاع العجيلي أن يقدم مساهمة كبيرة فيما نسميه أدب الرحلات الذي أثرى من خلاله المكتبة العربية والعالمية معاً.
لقبه وتكريمه
أُطْلِقَ على العجيلي لقب أيقونة الرقة، لعدة أسباب، ربما من أهمها ممارسته الطب رسالة وخدمة لكل الناس لعقود طويلة من السنين، بلا كلل ولا أجر ولا منّة، وكان الطبيب المداوي لكل رجل وامرأة وطفل في الرقة!.
أما الرقة، فيذكر أحد الكُتَّاب أن اشتقاق اسمها ربما ينبع من مدلولها الناعم الجميل، وقد نُقل عن الخليفة العباسي هارون الرشيد قوله: «الدنيا أربعة منازل، هي دمشق والرقة والري وسمرقند».
وفيها يقوم الضريح الفاره لعمار بن ياسر الذي اُسْتُشْهِدَ في معركة صفين على يد قوات معاوية بن أبي سفيان.
ويُذْكَر أنه قبل شهرين من وفاة العجيلي حضر العديد من الأدباء والدارسين والصحافيين احتفال تكريمه في مدينته (الرقة)، ويذكر الكاتب علي شلق أنه على أثر وعكة، أُجْرِيَت له فيما بعد عملية جراحية، ومن ثمَّ أصابه فالج، وأخيراً زلَّة قدم أقعدته عن الحركة. وهكذا زاره البعض بمناسبة حفل تكريمه، في منزله، وفي حي يحمل اسمه. وقد اُفْتُتِحَتْ قاعة باسمه في المركز الثقافي بالرقة، احتوت معظم آثاره ومخطوطاته وصوره منذ كان فتى حتى أيامه الأخيرة.
وفاته
أخيراً وليس آخراً، فإن هذا الجبل الشامخ، الذي تألق بقممه المضيئة، خلف الصحراء، على ضفاف الفرات، في الرقة، ومن هناك ارتفع وأضاء، ومنه تدفَّقَتْ ينابيع الإلهام والبطولة،
قد آن أوان أن يزُفَّه أهله ومواطنوه ومحبّوه إلى الملأ الأعلى.
آنت لحظة راحته، فلقد أعطى من روحه وفكره وجسده.
كان النفير، وأعلن البوق، لحظة وداعه في الأربعاء 5/نيسان/2006.
وعن هذا تذكر الكاتبة سوسن الأبطح: «بعد أربعة أيام من غيبوبة تامة، رحل الأديب السوري الكبير عبد السلام العجيلي. توفي العجيلي، في "رقته" الأثيرة. ودُفِنَ سريعاً – كما أراد – رافضاً أي مأتم رسمي».
أعماله
القصة القصيرة
1) بنت الساحرة: مجموعة قصص (1948).
وهي مجموعته القصصية الأولى، أعدها في عام التخرج وهيأها للطبع. إلا أنه لم ينشرها إلا في أواخر عام 1948، وفيها عشر قصص منها: قطرات دم، انتقام محلول الكينا، بنت الساحرة.
2) ساعة الملازم: مجموعة قصص (1951).
مجموعة تتألف من تسع قصص منها: الحب والأبعاد، ساعة الملازم.
3) قناديل إشبيلية: مجموعة قصص (1956).
مجموعة تتألف من سبع قصص منها: قناديل إشبيلية، الرؤيا.
4) الحب والنفس: مجموعة قصص (1959).
مجموعة تتألف من سبع قصص.
5) الخائن: مجموعة قصص (1960).
6) الخيل والنساء: مجموعة قصص (1965).
مجموعة تتألف من ثمان قصص منها: الخيل والنساء، ألوان من التعرية، من الذي أقتل، ثلاث رسائل أوروبية.
7) فارس مدينة القنطرة: قصة أندلسية (1971).
مجموعة تتألف من خمس قصص وهي: فارس مدينة القنطرة، مذاق النعل، الحب في قارورة، نبوءات الشيخ سلمان، العراف أو زقاق مسدود.
8) حكاية مجانين: مجموعة قصص (1972).
مجموعة قصصية فيها: الحاجان، الجدب والطوفان، فيفا، أيامي في جزيرة شاور، الورم، حكاية مجانين.
9) الحب الحزين: مجموعة قصص (1979).
مجموعة تتألف من أربع قصص.
10) فصول أبي البهاء: قصة (1986).
11) موت الحبيبة: قصص قصيرة وطويلة (1987).
12) مجهولة على الطريق: قصص قصيرة وطويلة (1997).
13) حب أول وحب أخير، سعاد وسعيد (2003).
الرواية
1) باسمة بين الدموع (1959).
2) رصيف العذراء السوداء (1960).
3) قلوب على الأسلاك (1974).
4) ألوان الحب الثلاثة (1975) بالاشتراك مع أنور قصيباتي.
5) أزاهير تشرين المدماة (1977).
6) المغمورون (1979).
7) أرض السِّيّاد (1998).
8) أجملهن (2001).
المقالة
1) أحاديث العشيات (1965).
مجموعة تتألف من تسع محاضرات منها: متمردان وزاهد، تاريخ دولة مجهولة، الأديب ماذا يكتب ولمن يكتب.
2) السيف والتابوت (1974).
مجموعة من المنوعات فيها: بين الداء والدواء، التجريد والتجسيد، الجد والأب والأب، رؤية في القمة، قصائد مهشمة، السيف والتابوت.
3) عيادة في الريف (1978).
مجموعة من المنوعات.
4) سبعون دقيقة حكايات (1978).
مجموعة تتألف من ست محاضرات منها: تجربتي في القصة، تجاربي في واحد وسبعين عاماً، سلفية العرب المعاصرين أو عرب اليوم والعودة إلى الينابيع.
5) في كل واد عصا (1984).
مجموعة من المقالات.
6) حفنة من الذكريات (1987).
7) جيل الدربكة (1990).
آراء في العلم والفكر والسياسة.
8) فلسطينيات عبد السلام العجيلي (1994).
منوعات (قصة، مقالات وشعر، محاضرات ومحاورات).
9) محطات من الحياة (1995).
مجموعة محاضرات.
10) ادفع بالتي هي أحسن (1997).
جولات في العلم والفكر والسياسة.
11) أحاديث الطبيب (1997).
12) خواطر مسافر (1997).
أدب الرحلات
1) حكايات من الرحلات (1954).
2) دعوة إلى السفر (1963).
3) حكايات طبية (1986).
الشعر
الليالي والنجوم (1951).
مجموعة شعرية.
المقامة
المقامات (1962).
مجموعة من المقامات حُرِّرَت بين عامي 1942 و1952.
حوارات
أشياء شخصية (1968).
وفيها أحد عشر حواراً منها: مذهبي في القصة، أزمة المثقفين العرب.
مراثي
وجوه الراحلين (1982).
مجموعة من المحاضرات التي أُلْقِيَت من 1955 – 1981، ج2 من 1984 – 1998.
المسرح
أبو العلاء المعري (1937).
منوعات
1) ضد التيار (2002).
أحاديث في الأدب والفن وفي الفكر والسياسة.
2) جيش الإنقاذ (2005).
صور منه – كلمات عنه.
3) ذكريات أيام السياسة (2007).
الأعمال المترجمة إلى لغات عالمية
(بين السبعينيات والثمانينيات)
1) قصة الشباك، هارب من الموت، الضفادع، التشيكية، 1974.
2) رصيف العذراء السوداء، الأرمنية، 1975.
3) قصة: حديث بلغتين، قصة: الحاجان، الروسية 1977.
4) المقامة الطبية الأولى، الإنكليزية، 1978.
5) قصة: حكاية مجانين، السلوفينية، 1979.
6) قصة: مصرع محمد بن أحمد حنطي، السويدية، 1980.
7) قصة: حكاية مجانين، الأرمنية، 1980.
8) قصة: مصرع محمد بن أحمد حنطي، الألمانية، 1982.
9) رواية: قلوب على الأسلاك، الفرنسية.
جوائز
1) الجائزة الأولى في مسابقة مجلة «الحديث» عن مسرحية «أبو العلاء المعري» (1937).
2) الجائزة الأولى لمسابقة إذاعة دمشق من إذاعة لندن، قصيدة «الجندي في ميدان القتال».
3) جائزة مسابقة القصة التي نظمتها مجلة الصباح في عام 1943، عن قصته «حفنة من دماء».
أدبه وتأثيره على مسيرة الأدب
القصة والرواية
يشير بعض الدارسين إلى أن المدرسة الواقعية ظهرت في الكثير من أعماله، إلا أن هذا لا يعني أنه اللون الوحيد الذي تكلم فيه العجيلي، فالمصادفة والغرائبية كثيراً ما تلوح في أعماله القصصية وهي تذكرنا باللامعقول الذي نلمحه خصوصاً في أعمال غادة السمان، إلا أن اللامعقول عند العجيلي أخذ منحى يعبِّر عن حكمة عميقة من جهة، وعن وعي رؤيوي من جهة أخرى، فالمصادفة على سبيل المثال عند العجيلي تأخذ بُعْداً عميقاً يعبِّر عنه علم النفس اليونغي بمصطلح «التزامن» وهو حدث خارجي على توافق مع حدث داخلي، وبالتالي فهو يعبر عن حكمة عميقة (راجع قصة «انتقام محلول الكينا» في نهاية الدراسة).
وقد برع العجيلي في الرواية أسلوباً وتعبيراً، واستخدم عدة تقنيات، منها تقنية «الخطف خلفاً» كما في رواية «باسمة بين الدموع» وما يسميه الألمان «رواية البناء» كما في «قلوب على الأسلاك» وعنها كتب جان غولميه يقول: «هذه هي حبكة الرواية البسيطة التي تشد القارئ. أما الذي يجعلها بالنسبة لي مثيرة للاهتمام فكونها تقدم، وربما لأول مرة في الأدب العربي المعاصر، ما يسميه الألمان "رواية البناء" أي القصة التي يتتبع فيها القارئ "تشكل السجايا" أي ذلك الذي وُفِّقَ غوته إليه، مثلاً في روايته "سنوات تدريب ويلهلم ميسر" وستاندال في "الأحمر والأسود"، وفلوبير في "التربية العاطفية". إن القصة في كل واحدة من هذه الروايات الشهيرة تتركز حول الشخصية الرئيسة، التي تمضي، بالتجربة بعد التجربة، للوصول إلى العقل، العقل الذي لا يتفق دائماً مع السعادة، إنما مع الانقياد للوجود والقدر».
وبدوره، يعتبر البروفسور جاك بيرك أن رواية «قلوب على الأسلاك» جديرة بأن تُصَنَّف بين أقوى ما ظهر من نوعه في الأدب العربي المعاصر. ومع اختلافه الكبير، كما هو منتظر، عما أنتجه في نفس الجيل أمثال نجيب محفوظ، وجبرا ابراهيم جبرا، فهو يمثل مع ذلك النتاج أول قفزة للإبداع الروائي بعد أن أنضج المتقدمون الكبار، الذين هم الرواد في هذا الإبداع.
ويذكر جان غولميه رأيه في الأدب الروائي عند العجيلي فيقول: «غوته وستاندال وفلوبير أسماء أعلام في الأدب مشهورة، وعبد السلام العجيلي يستحق أن يشبه بأساتذة فن الرواية الكلاسيكي هؤلاء».
المقالة
أما المجال الآخر الذي كان للعجيلي فيه باع طويل فهو المقالة، وعنها يقول نبيل سليمان: «يلتبس غمر المقالات التي كتبها العجيلي في عشرات الصحف والمجلال طوال عشرات السنين، بالحكاية، والمحاضرة، والمذكرات، والمحاورة–المقابلة، والحديث، والرسالة، والخاطرة، والاعترافات».
أما أسلوبه فقد كان واحداً على تنوع المجالات التي كتب فيها، هذا الأسلوب في التعبير بلغة عربية وصفها النقاد بـ«الفخمة»، وكان العجيلي حريصاً على هذه اللغة كتابة ومحاضرات.
المقامة
وهو لون أدبي بات مجهولاً لدى الكثيرين، وقد برع فيه العجيلي. أما تعريفها كما يأتي في المعجم الأدبي فهو: «فن أدبي ظهر في القرن العاشر الميلادي، اُشْتُهِرَ به الهمذاني والحريري من القدامى والشيخان ناصيف اليازجي وابراهيم الأحدب من المحدَثين. ومن أصوله:
- الكلام على بطل واحد، وراوٍ واحد، يظهران في كل مجموعة من المقامات.
- التفلُّت من قيود الزمان والمكان في المقامات بحيث أن الأحداث التي تُنْسَب إلى البطل تتم في بلدان مختلفة يستحيل الانتقال إليها كلها، وفي أزمنة متفاوتة تفصل بينها مئات السنين.
- العناية القصوى، بتنخُّل المفردات، وصياغة العبارات، وتوخي السجع، وإرفاق النصوص بالشواهد الشعرية، والأمثال، والحِكَم».
برزت حبكة الأحداث في عدد من المقامات، لاسيما في مجموعة الهمذاني، إلى درجة أنها قَرُبَت في سياقها، وتسلسلها، وإثارتها من الأقصوصة.
وعن مقامات العجيلي كتب لويس يونغ: «استوفى العجيلي في مقاماته جميع المقاييس الكلاسيكية، فمقاماته ليست إحياء للشكل الأدبي القديم فحسب، بل حياكة في نول قديم، بخيط جديد.
تعتمد مقامات العجيلي في سخريتها على رسائل بيانية، تتدرج في المبالغة بالتصوير الكاريكاتوري والموقف الهزلي، إلى الكنايات والاستعارات من التراث الإسلامي. ففي المقامة الطبية الأولى، نجد أن العجيلي لقَّبَ الأستاذ في كلية الطب بجبرائيل ابن يختيشوع تيمناً بذلك الطبيب العربي النسطوري الشهير الذي كان طبيب هارون الرشيد، والذي جمع ثروة طائلة في ممارسته لهذه المهنة، وما فعل العجيلي ذلك إلا ليداعب بسخرية أستاذه في الكلية. أما المقامة الطبية الثانية، فإن الممتحنين لطلاب الطب في الجامعة أصبحوا يحملون أسماء الناكِر والمنكَر الملاكين اللذين يستجوبان الأموات، إن هذا الدفق من الصور الكاريكاتورية المضحكة في مقامات العجيلي غالباً ما يأخذ أشكالاً أخرى، كأن يقسم البروفسور في كلية الطب بالله، وبأبقراط، وكأن يقسم الحقوقي في المقامة الحقوقية، بكل ما في القانون من أوتار، وبقاض من الجنة وقاضيين من النار».
المسرح
يذكر وليد إخلاصي أن العجيلي كتب للمسرح أكثر من مرة، وقد قدَّم لمسارح الهواة في الرقة أعمالاً كوميدية أو ذات طابع بيئي (هكذا روي لنا من شهود عيان)، كما أنه كتب في شبابه الأول مسرحية صغيرة نشرتها في فصلين مجلة «الحديث» بعنوان «أبو العلاء المعري» في عام 1937.
«وفيها تم تقديم المعري الفيلسوف والشاعر كنموذج عربي للبطولة العقلية، وكأنما العجيلي في ذلك أراد أن يقول أن للكُتَّاب والمفكرين دورهم الحاسم في معارك النضال والوطنية».
كما يذكر إبراهيم الجرادي أن العجيلي كتب لفرقة الفنون الشعبية بالرقة عدة أعمال دون أن يعلن كعادته عن ذلك، منها «برج عليا» و«صيد الحباري» تدعيماً وتشجيعاً لحماسة شبابها وليس محاولة للإيغال في عالم المسرح ومنجزاته.
الشعر
في دراسة جميلة للشاعر شوقي بغدادي يشير إلى أن انصراف العجيلي إلى القصة تاركاً الشعر، ليس إلا انصرافاً عن تعرية نفسه للآخرين من خلال الشعر الذي كتبه في مجموعته الوحيدة «الليالي والنجوم» عام 1951 إلى تعرية الآخرين، وذلك ضمن إطار جنس أدبي آخر هو القصة.
ويذكر ما كتبه العجيلي في مقدمته لمجموعته الشعرية: «لا يعجب القارئ حين يرى قصائد "الليالي والنجوم" ما كان منها غزلاً، أو كان منها شعراً غنائياً، أو ذكريات وطنية تستمد معانيها من ذلك العالم الواسع الأبعاد، المحدود العناصر، فإنما نحن أبناء بيئتنا الأولى، وليست بيئة "الليالي والنجوم" إلا زاوية من الأرض قامت فيها بلدة كأنها قرية – ويعني "الرقة" الواقعة في شمالي شرقي سوريا – على شاطئ نهر عريض – ويقصد الفرات – وعلى سيف بادية بعيدة الآفاق – ويقصد بادية الشام – أجمل مواسمها ليلة تصحو السماء، وتزهر النجوم، ويملأ نور البدر التلال والبقاع».
كما يذكر الشاعر شوقي بغدادي: «أسلوب التناول الغالب على القصائد هو أسلوب المناجاة أو المونولوج الداخلي، فمعظم القصائد تبدأ بنداء مثل: يا بدر.. يا غيمة.. أذني تملّي.. أو مونولوج "الخميلة العطشى" وهو إرهاصها بالتحول الذي سوف يقوى ويتأصل أكثر فأكثر فيما بعد من خلال ظاهرة الغوص على العوالم الداخلية للشاعر بدلاً من الوصف الخارجي أو الخطابي المباشر».
ومن قصيدة «ليلة غائمة» يذكر هذه الأبيات:
سهرتُ على وعدٍ سرابٍ من المنى فهل تسهرين الليل ترجين وعدَها
أريقي السـنا يا أختُ علَّ شعاعةٌ تطوف بمثواهـا، فتمسـح خدَّها
وتشـكو لـها طول الليالي وهمَّنا ووحشـتَنا في ظلمةِ الليل بعدها
عالمية العجيلي
تألق العجيلي أكثر ما تألق في القصة والرواية، واُعْتُبِر أحد أعلامهما في سورية والعالم العربي، إلا أنه من الصعوبة بمكان حصره في دائرة القومية، لأن العجيلي تعدَّى هذه الدائرة نحو دائرة العالمية ليصبح ندّاً لأدباء عالميين آخرين عرفهم الغرب، ولعل عالمية أدبه تظهر من خلال الترجمات للعديد من أعماله للغات مختلفة، وعامل الرؤيا أو الوعي الرؤيوي في الكثير من أعماله، وكذلك رحلاته التي قام بها فتواصل مع العالم الغربي وأبدع في أدب الرحلات، هذا الأخير الذي عكس عالمية العجيلي.
مظاهر من التجليات الإبداعية عند العجيلي
الأنيما والأنيموس في أدب العجيلي
الأنيما باللاتينية تعني النفَس الحي، أو الحيوي، ومنها أتت كلمة «animer» أي إعطاء الحياة أو الحركة، وفي اليونانية تعني الروح، أما مذكّرها فهو الأنيموس، ويعني الريح، وفي الحقيقة هما مصطلحان اتخذهما الدكتور يونغ ليعبِّر من خلال الأنيما عن الجانب المؤنث من الرجل، ومن خلال الأنيموس عن الجانب المذكر من المرأة.
ولتوضيح الأمر على مستوى تأخذ فيه الأنيما صورة الروح العميقة، هذه الصورة البهية التي تمثلها قصة الأميرة النائمة التي تنتظر الأمير (أي الأنيموس) ليوقظها، هذا الأمير الذي قد يكون ضفدعاً أو وحشاً ويتحول إلى أمير شاب، إنه بعبارة أخرى الأنيموس أو الذكر–المادة، الذي يحن ويتوق للروح–الأنثى، لعناقها والوصال معها، وفي هذه الصيرورة، يطرأ تحول على الذكر–المادة الذي ينطلق من الغريزة (أي الوحش أو الضفدع)، ليصير إنساناً يتمثل من خلال الأنيموس الذي يتوق للاتحاد بالروح–الأنثى، المتمثلة من خلال الأنيما.
ربما تبدو معاني الأنيما والأنيموس هنا مرتبطة بكل من المبدأ المؤنث والمبدأ المذكر، في حين أن الدكتور يونغ عنى بالتحديد ما هو نموذج المرأة في الرجل، ونموذج الرجل في المرأة، وهذا ما سنراه على نحوٍ متواتر في أدب العجيلي.
«نموذج المرأة»
بالنسبة إلى فرويد فإن «نموذج المرأة» الذي يحمله كل رجل في لاشعوره، والذي يمثل على مستوى ما شبقي، قد يكون ذكرى الأم التي «انطبعت» باكراً في عقله الباطن.
وفي الواقع إن ذكرى الأم هذه إذا ما تركت مركَّباً أوديبياً، فإنها تولِّد نموذجاً شبقياً للمرأة خالصاً، يسعى إليه الرجل في لاشعوره، ويعجز أن يقيم علاقات عاطفية مع المرأة لأنها تمثل في لاشعوره «الأم المحرَّمَة». وفي سياق تطور دراماتيكي فالمرأة أخيراً، تمثل مدى تطور علاقة الرجل مع نفسه، وهنا أيضاً يساعدنا الدكتور يونغ في الإشارة إلى مراحل في نمو الأنيما، المرحلة الأولى ونعثر فيها على النموذج الشبقي للمرأة، والمرحلة الثانية ويمكن العثورعليها فيما نتعارف عليه بالحب العذري أو ما اشتُهِر في أوروبا في القرن الثاني عشر باسم حب التروبادور، وهنا الأنيما تجسد المستوى الرومانسي والجمالي، لكنها مع ذلك، تظل متسمة ببعض العناصر الجنسية. أما المرحلة الثالثة وتمثلها مريم العذراء مثلاً، أي الشخصية التي ترفع الحب (الجنس) إلى ذرى التكريس الروحي.
وقد وصلنا إلى هذه النقطة، نستطيع ربما متابعة نموذج الأنيما والأنيموس في أعمال العجيلي. ونبدأ برواية «باسمة بين الدموع».
رواية «باسمة بين الدموع»
يذكر د.شاهر امرير أن العجيلي يستخدم مدخلاً لروايته، إحدى تقنيات الرواية الحديثة، وهي "الخطف خلفاً"، فتبدأ الرواية بالانطلاق من موقف مثير، وهو سقوط سيارة سليمان، وهو يقودها في طريق العودة من بيروت إلى دمشق، بعد التدحرج من قمة ظهر البيدر إلى المنحدرات المطلة على سهل البقاع.
ويلخص د.شاهر امرير الرواية على النحو التالي: «قسم العجيلي الرواية إلى مدخل، وستة فصول، ووضع عنواناً لكل منها، ففي المدخل الذي اختار له الروائي "الطريق الزلقة" عنواناً، يسرد موضوع سقوط سيارة سليمان العطا الله، ومحاولته إلقاء نفسه، والقفز من السيارة أثناء نزولها، فأدارت عموده الفقري على محوره والتوى».
أُسعِفَ إلى فندق شتورا حيث أحاطته سيدة جميلة برعايتها طيلة ثلاث ساعات، وفي طريق عودته بين شتورا ودمشق، فطن سليمان إلى باسمة التي مضت ستة شهور على آخر لقاء بها، وهي التي عرفها منذ ثلاثة أعوام أو ما يقاربها، وهذه الفترة هي السياج الزمني للرواية، فيطلبها على الهاتف باسم "ناتاشا"، ويتواعدان أمام دار السفارة، فيذهب إلى طريق أبي رمانة، حي السفارات لينتظرها أمام دار السفارة التي يعرفها. كانت ممددة في السرير إلى جانبه، تتحسس أصابعه شفتيها اللتين طالما أطبقتا عليه في قبلات طويلة وكثيرة، محمومة أو مستثيرة أو مرتوية، وهو يحسد من يلقاها في طريقه صباحاً. ثم تسأله لماذا لا يتزوج من أختها هيام فيتهرَّب أو يتخلص من الإجابة مدَّعِياً، بأنه رجل مقصوم الظهر متوتر الأعصاب، لم يبق بينه وبين الموت إلا تلك الصخرة التي أوقفت سقوط سيارته على المنحدرات.
وباسمة تلخِّص ما آل إليه وضع سليمان، وتسأله إن كان يعرف الحب، وعن علاقته بزوجة صديقه عبد الحليم التي يتعشقها روحياً، ويتعلَّق بها تعلقاً أفلاطونياً، ويرتبط بسعاد الراقصة جسدياً، وسليمان في هذه المرحلة من حياته ضائع في السياسة، تابع في المحاماة، وترى باسمة فيه إنساناً غريباً.
ثم يسرد العجيلي كيف تعرف سليمان العطا الله على باسمة وهيام في الفصل الأول تحت عنوان «عينان واسعتان وجديلتان».
في بداية الفصل الثاني الذي يحمل عنوان «في الحي القديم»، يقدم العجيلي وصفاً لدمشق الخمسينيات، والحياة السياسية التي دفعت سليمان بطل الرواية المحامي إلى العاصمة. وفي هذا الفصل يروي لقاءه بهيام في مكتبه، مصادفة، ومحاورتهما حول مفهوم الأدب، وبعد اتصال هاتفي يلتقي مع أختها باسمة وتخبره بأنها امرأة متزوجة ومطلقة.
في الفصل الثالث يسافر سليمان وباسمة إلى بيروت، وعلى الرغم من عزوفها عن الالتحام جسدياً بسليمان لإيثارها أختها هيام، إلا أن هذا لم يمنع من نشوء علاقة جنسية بينهما.
في الفصل الرابع يتبادلان الرسائل.
الفصل الخامس «دموع باسمة»، وفيه نرى باسمة وقد أصبحت جسداً أنثوياً مغرياً، جماله فتنة ثائرة وجاذبيته شهوة عارمة، إنها تلقي جسدها بين يديه، مستسلمة لفحولته استسلاماً كاملاً، أما أختها هيام الطالبة الجامعية، فتدعو سليمان والدكتور الياس إلى ندوة في الجامعة حيث يبدي الطلاب إعجابهم بسليمان..!!
يذهب سليمان إلى الشقة حيث يجد باسمة غافية، وحين تستيقظ تهم بخلع ثيابها، مبتدئة بطوق حول عنقها، لكن سليمان لا يشجعها متذرعاً بتأخر الوقت، فتسأله: سليمان هل شبعت مني؟ لكنها لا تلبث أن تخرج ناسية طوقها، وفي اليوم التالي حين تأتي هيام إلى شقة سليمان مع زميلتين، ومع تطور الأحداث، ترى طوق أختها باسمة في غرفة نوم سليمان..!!
وأثناء الصراع الداخلي الذي عاشه سليمان على أثر اكتشاف هيام لعلاقته مع أختها باسمة -فهو يحُنّ إلى باسمة ويشتهيها، ولكنه غير واثق من أنه يحبها، وهيام قد أخذت تمتلك عليه أفكاره، وتستأثر بمشاعره- ولا تلبث باسمة أن ترسِل له رسالة: هذا سيفك وقد جلَوْته لك فاقتلني به فالموت أجمل هدايا الحب.
في الفصل السادس «بقية الدموع»، يعود العجيلي إلى البداية عندما عاد سليمان من بيروت ووقع له الحادث المريع، فلقد علم تفاهة حياته، وإصراره على أن يعيشها بالرغم من ذلك، ونفسه لم تستطع أن تطابق بين مُثُلِهَا وتصرفاتها، إن قلبه ليكاد ينفطر لإدخاله الغم على قلب هيام بسبب اكتشافها علاقته بأختها.
يغادر إلى بيروت، يسهر في حانة في كهف تحت الأرض، فيفضي بهمومه لراقصة نمساوية، فهو نادم على أنه أيقظ شيطان الجنس في جسد باسمة، فحوَّلَها من فتاة تملؤها متع الفكر والروح إلى أنثى تجد في فحولة عاشقها أعلى مزاياه.
يقع لسليمان حادث السقوط لدى عودته إلى دمشق، يراجع الدكتور الياس بشأن آلام ظهره، ويعلل مواصلة سليمان السفر بعد الحادث، عازياً ذلك لوجود المرأة التي احتفت به في فندق شتورا. وبعد قيامه بالعملية أصبحت مشيته غريبة مما أدى إلى نفور سعاد زوجة عبد الحليم منه، وأدرك في المستشفى أن ما كان يراه امتيازاً من تحرر من مسؤولية الزوج هو ما ينقصه، فرجل لا يتعلق بولد، هو أبتر مقطوع الصلة با